حازم صيموعة.
بعد أن وضعنا رحالنا على شواطئ بحر إيجة، على نيّة أن نكون ضيوفًا خفيفي الظل، سريعي المغادرة، خابت أمانينا بعد أقل من ساعةٍ على وصولنا، لنبدأ رحلة استكشاف معالم هذه القبيلة، المترامية الأطراف، بين سفح جبلٍ تكسوه أشجار الزيتون، وشاطئٍ تتكسر عليه أمواجٌ تعجُّ برجع صدى، أصوات من رحلوا، لا فرق كبيرًا بين ما تراه على وجوه من بقيوا، في الداخل السوري، من تعب وحزن وخذلان، وما تراه على وجوه أفراد قبيلتنا، عددٌ كبيرٌ من الخيم المصنوعة من بقايا “الكرتون”، وأقمشة حقائب القوارب المطاطية، سوداء اللون كالأيام التي قضاها ساكنو تلك الخيم، تكاد لا تخلو شجرة زيتون من خيمة تتكئ عليها، ومع اقتراب المساء، تجولت في المكان، أنا الوافد الجديد المفعم بالأمل، بين ما يقارب الألف من الوجوه الشاحبة، كانت نظراتهم تحاول إخباري بأن هذا المكان ليس مخصصًا لاصطحاب الأمل، كنت أمشي خجِلاً كمن يحمل رغيف خبزٍ، وسط مخيم من الجياع، لاإراديًا بدأت ترتسم علامات الشحوب على وجهي، بل على وجوهنا جميعًا، كل الوجوه هنا مطرقةٌ في الحزن، كما لو أنه جزءٌ من تكوينها، كل العيون غائرةٌ كأنها ترفض أن ترى ما يدور حولها، كل الألوان هنا وهمٌ، لا حقيقة سوى ذاك الأزرق المترامي الأطراف.
باعة الخوف
ما هي إلا لحظات، حتى انطلق “بلمنا” حاملا مجموعة غيرنا، لاحقته عيوننا جميعا وهو يصغر مختفيا في البحر، حاله كحال أملنا في تلك اللحظات، على عجلة تناولنا وجبة خفيفة، وبدأنا بترميم إحدى الخيم بهدف قضاء ليلتنا فيها، بينما قام قسم آخر من المجموعة “بإنشاء” خيمة جديدة، عادت بي الذاكرة هنا إلى أيام الحصاد وجمع المحاصيل في قريتي الصغيرة “عرمان”، حيث كنا نهرب من حرارة الشمس نهارا، لنقوم بالحصاد تحت ضوء القمر ليلا، ولكننا الآن نجني الخوف تحت سماء لا تضيؤها إلا أوهام ذكرياتنا، لا سبيل للهروب من البرد هنا، كل ما تستطيع فعله هو أن تعتاد عليه، فهو مرافقك الإجباري ليلا، قلة منا تمكنوا من النوم جيدا، ومع ساعات الصباح الأولى، شحذنا أملنا مجددا، وهممنا بتناول فطورنا وتحضير أنفسنا لنكون على أهبة الاستعداد، مازالت المجموعات تتوافد إلى المكان، سوريون وعراقيون وأفغان، ولوهلة تكاد تحس أنك في أحد الأسواق الشعبية، و”البسطات” تملأ المكان، كل الوجوه تعرض بضاعتها هاهنا، وجوه تعرض الحزن، وأخرى تبيع الأمل، ونادرة هي الوجوه التي تبيع ما تبقى لديها من فرح، لكن البضاعة المشتركة بين الجميع هي الخوف.
كفن أسود
على مقربة منا، تقوم مجموعة من الشبان بنفخ “البلم” الذي سيجتاز بهم البحر، كنا نراقبهم متظاهرين بعدم الاكتراث، عيوننا ترقب تغير شكل ذاك المطاط الأسود، هذا السواد، غيّر مفهومي عن الكفن الذي اعتدت رؤيته أبيض اللون، فمئات مروا قبلي من هنا، ركبوه طوق نجاة، لكنه كان رفيقهم الأخير إلى الموت.
سرقوا “بلمنا”
تم إعلامنا بوجوب إرسال مجموعة منا، ليشتروا الماء والطعام، وهذه كانت إشارة إلى أن إقامتنا هنا ماتزال طويلة، وبينما اتجه ثلاثة منا إلى القرية المجاورة، بدأ العمل على توسيع وصيانة الخيمتين اللتين قمنا بتجهيزهما للنوم، انقضى اليوم الثاني لنا في “النقطة” وبدأ اليأس يتسلل إلى النفوس، في الثانية بعد منتصف الليل، جاء اثنان من مسؤولي النقطة لإيقاظنا، فقد وصلت دفعة جديدة من “البلمات”، وعلينا التحرك لننقل أحدها من الطريق الإسفلتي، إلى مكان تجمعنا، على أن يكون “البلم” الذي ننقله لنا، وهذا ما حدث، ولكنهم أخلّوا بالاتفاق، وأعطوا البلم صباحا لمجموعة أخرى، فعلت الأصوات وباتت المواجهة وشيكة، لولا أننا تداركنا الموقف في اللحظات الأخيرة.
شجرة التين
بعد ظهر اليوم الثالث، ابتعدتُ قليلا عن المجموعة، وعلى بعد مئتي متر تقريبا، تقف شجرة تين ضخمة، رحت آكل التين وأحدثها “التين في بلادنا شجرة مباركة، وفي مثل هذه الأيام، كنت أقضي الكثير من الوقت مع أشجار التين، في قريتي الصغيرة في الجنوب السوري، وكنت أساعد أمي في صناعة (معقود) التين في كل موسم، هل تعتقدين أنها تجد من يساعدها في غيابي؟ لا تغضبي من السوري الذي حفر على جذعك، الأحرف الأولى لاسمه واسم حبيبته، فهي عادة لدينا نحن السوريين، كما أنه قد هرب من الموت، وسيواجه البحر بعد أن يتركك، وربما ستكون هذه الأحرف آخر ما يتبقى منه”.
بانتظار ساعة الصفر
قاطعني نداء صديقي، فالتحقت بالمجموعة، نفد الطعام والماء، ولم يعد لدينا ما نأكل أو نشرب، ولم يقبل أي من مسؤولي النقطة مرافقتنا لشراء الطعام من القرية المجاورة، بمحاذاة الطريق الاسفلتي، هناك نبع ماء شحيح، ذهبت برفقة اثنين من أصدقائي كي نحضر منه الماء، رحلة استغرقت أكثر من ثلاث ساعات، عدنا بعدها حاملين ما يكفي للشرب مرة واحدة لكل فرد من المجموعة، بعد أن كادت “الجندرما” تراني أملأ الماء من النبع، لولا أنني ركضتُ كعداء للمسافات القصيرة، لأختبئ خلف شجرة على مقربة من النبع.
توصلنا أخيرًا لاتفاق مع أحد مسؤولي النقطة، يقضي بأن ندفع خمسين دولارًا عن كل فرد من المجموعة، مقابل أن يؤمن خروجنا من هذا المكان في اليوم التالي، قمنا بجمع المبلغ وتسليمه، وفي الصباح الباكر، استلمنا “بلمنا” أخيرًا، وقمنا بنفخة وتجهيزه، بانتظار ساعة الصفر.