بعد أن أصبحت شاشة الهاتف نافذةً واسعة، وعدستها شرفةً نطل من خلالها على عوالم الآخرين، يقدم لنا الشاعر فايز العباس عالمه المترع بالغربة والألم، والتناقضات التي توفرها ثنائية مكانين، بين سوريا وألمانيا حيث يقيم حالياً.
عالم فايز العباس هذا جاء مكثفاً مشدوداً كوترٍ على زندٍ ورقي هو ديوانه الجديد “5 ميغا بيكسل” الصادر مؤخراً عن دار فضاءات للنشر والتوزيع في الأردن.. فلا تخلو مشاهده من تفاصيل الحب والثورة والحرب وكل ما يتخلل هذه المحطات الموغلة في الصعوبة والتعقيد من رغبة شديدة للتمسك بيد الحياة ولو بشقّ الأنفس. بالتواطؤ مع العباس استطعنا أن نفتح باباً من أبوابنا على عالمه وديوانه الجديد:
حوار: أروى غندور. صحفية سورية مقيمة في ألمانيا
نبدأ من عنوان كتابك، 5 ميغا بيكسل، ما طبيعة العالم الذي اضطررت للتعامل معه من خلال كاميرا هاتفك الامامية؟ هل تراه انعكاسا صادقاً للعالم الحقيقي؟
مجموعتي 5 ميغا بيكسل هي مجموعة نصوص شعرية حاولت من خلالها تصوير أو التقاط ما أمكنني التقاطه من خلال كاميرا موبايلي، أستطيع القول بأنها حالة من التماهي بين عين الشاعر وعين الكاميرا، حيث بعد الخروج من سوريا في رحلة اللجوء بات الموبايل هو صلة الوصل بيني وبين الداخل السوري، الأهل والأصدقاء والحبيبة والأماكن، من هنا فإن العالم أو طبيعة العالم هي طبيعة حقيقية وواقعية، ولكن مع معالجتها بعين الشعر تماماً كما تُعالج الصور بالفلاتر، هي حالة مزج بين الواقعي والتخييلي، بين الحقيقة والمجاز، ومحاولة رصد تشبه رصد القناص للطرائد.
تصف نفسك في ديوانك بالجثة الناجية، إلى أي درجة بقي باستطاعة تلك الجثة أن تنتج الجمال (الشعري هنا) الجمال غير المحاصر بالسوداوية؟
هذا السؤال يضعني أمام سؤال من نوع آخر، وهو: هل الحياة تستمر أم تتوقف في حال أصابت شخصاً ما مصيبة؟ أنا أرى بأنها ستستمر ولن تتوقف، فهي عجلة كبيرة ومطحنة علينا دائماً مجاراتها لكي لا تطحننا، كما زهرة تنمو فوق قبر، هذا من جانب، ومن جانب آخر فالمجموعة فيها من التقاطات السواد أو الرماد الذي علا أرواحنا ما فيها، لذا أقول: إن الحياة رغم كوننا خرجنا منهاً جثثا تستطيع أن تفرض رتمها علينا، وها نحن نعيش كل ما أصابنا، نوقد له الشموع ونحتفي بلحظات الفرح المسروقة.
هل ينتمي ديوانك للنتاج الأدبي الذي يتخذ مسافة حياد بينه وبين ما حدث ويحدث في سوريا؟ وهل ترى من الضروري التمييز بين ما يسمى أدب الحرب وأدب الإنسان في الحرب؟
أبداً، الديوان يصب كلياً فيما حدث ويستمر حدوثه، ليس لكاتب حقيقي القدرة على وضع حاجز بين نتاجه وواقعه، أو بين أدبه وإنسانيته، الحياد عادة تمنع الحيادي من الموت واقفاً، وأنا أتمنى ألا أموت حيادياً، ففي الحدث السوري الوسط هو المساحة التي يشغلها الرصاص.
أما مسألة الفصل بين أدب الحرب وأدب الإنسان في الحرب فهي مسألة من شأن الدراسات النقدية الحكم والبت فيها، فأثناء الحرب يصبح كل ما يتم إنتاجه أدباً في وقت الحرب، والقارئ أو الناقد سيقول وهو جالس وراء مكتبه: هذه قصيدة حرب، وهذه قصيدة في الحرب.
ما الجديد الذي قدمه فايز العباس في هذا الديوان مقارنة بديوانك الأول “فليكن موتي سعيداً”؟
ربما أستطيع القول بأن المجموعة الثانية هي نتيجة للمجموعة الأولى، ذلك لأني في “فليكن موتي سعيداً” كنت قد استشرفت المستقبل وقلت فيها أو تنبأت بالثورة وحرب الطوائف، هذا من حيث المضمون، أما على مستوى الشكل فهناك تمايز كبير بدءاً من تفلتي من الوزن وموسيقا العروض وليس انتهاء بأطوال النصوص، سابقاً كان نفسي أطول، أما الآن فأميل للتكثيف، وهذا يدخل في تقنية التصوير من خلال كاميرات الموبايل.
حتى على مستوى بعض المفردات أو المصطلحات يلاحظ قارئ ديوانك ابتداءً من العنوان مثل “فوتوشوب” و”سيلفي” و”فلاش” و”كاميرا أمامية” وغيرها، هل يمكن اعتبار هذا التوظيف من ملامح ما هو جديد في تجربتك؟
حين تكون الكتابة فعل معايشة للواقع، لابد أن تتأثر بأدواته ومفرداته وحيثياته، ولأنني أقدم مجموعة أزعم أنها تصوّر الواقع في حدودها الدنيا فقد كان من الضروري حسب رأيي وحسب ما تنتمي إليه المجموعة من أحداث معاشة ويومية أن أستخدم مفردات تنتمي إلى هذا الواقع، فضلاً عن أني اشتغلت “وأعني هنا الشغل بمعناه النقدي” على المجموعة من حيث العنوان الرئيس والعنوان الفرعي وعناوين الأبواب، إضافة لاستخدام مفردات تنتمي لروح العصر في مجمل النصوص، ولابد من التذكير بأن المفردة تكتسب شاعريتها، أو دفقتها الشعرية من تموضعها وسط الجملة، وبمعنى آخر؛ من توظيفها في المكان والشكل الذي يمنحها شرعيتها في النص.
هذا الاقتحام التكنولوجي لعالم الشِعر – إن صح التعبير- هل قدّم فضاءً جديداً أمام الشاعر أم أنها ليست أكثر من عملية تقييد للشِعر أسوة بحال الإنسان عموماً بعد أن أصبح محاصراً بالتكنولوجيا؟
الشعر ابن المجتمع وابن الحياة وابن الراهن، لذا أرى أن هذا ليس اقتحاماً بقدر ما هو استفادة من مفرزات العصر “التكنولوجيا ومصطلحاتها”، مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذا الاستعمال أو الاستخدام يحتاج مرونة ودراية لئلا يبدو نافراً في النص الأدبي عموماً، وفي الشعر على وجه الخصوص، وذلك طبعاً لا يعني إقصاء الخيال وباقي الأدوات الشعرية.
هناك من يتحدث عن مصطلح “القصة الشاعرة” كنوع أدبي جديد له خصائصه ومميزاته، هل ترى ان النتاج الأدبي الحالي فيه من الملامح ما يدعو إلى نحت مصطلحات أدبية جديدة؟
لا شك أنه ثمة تداخل يكاد يكون مربكاً بين الأجناس الأدبية، خاصة أن قصيدة النثر ماتزال تعاني من حيث التجنيس رغم كل الحروب التي قامت على تخومها، والقصة الشاعرة لا تختلف كثيراً عن المسرحية الشعرية من حيث نحت المصطلحات مثلاً، غير أن التسمية والتأصيل النقدي للمصطلح بحاجة إلى جهد المختصين.
في ديوانك الجديد تدوّن صوراً تحملها في محفظتك، وهي عبارات نقلتها عن لسان أطفالك، برأيك هل يصل الشاعر إلى ذروة تجربته عندما يكتب بعفوية وفطرية الطفل؟
الكل متفق على أن الشاعر الأصيل هو الذي ما يزال يحتفظ بالطفل داخله، ويعرف كيف يخرج نصه بلسان طفله، فالأطفال شعراء بالفطرة، نعم أرى ذروة الشعرية الحديث بعفوية طفل.
جدير بالذكر أن الشاعر فايز العباس من مدينة القامشلي في سوريا، يحمل إجازة في اللغة العربية، حائز على جائزة الشارقة للإبداع العربي، صدر له ديوانان مطبوعان الأول (فليكن موتي سعيداً) عن دار الشارقة للنشر، والثاني (5 ميغا بيكسل “ذاكرة ممتلئة لعينين”) عن دار فضاءات للنشر والتوزيع- الأردن. من مؤسسي جماعة حالة الثقافية ومهرجان القصيدة السورية في ألمانيا، وجمعية البيت الثقافي العربي في مدينة هاله الألمانية.
اقرأ/ي أيضاً:
الروائية السورية “وفاء علوش” تفوز بجائزة “كتارا” عن روايتها: “كومة قش”
مهرجان “أمارجي” الثقافي.. احتفال بالفنون العربية في هامبورغ
“لاجئون مسنون في برلين”.. ندوة حوارية عن أحوال كبار السن من الوافدين الجدد