علا الجاري. صحفية سورية مقيمة في ألمانيا
كوابيس الثورة
لا يمر يوم دون أن تكتب وصال رسالة إلى والدها، رغم أن أياً من رسائلها لم تصله. والدها اختفى قبل سبع سنواتٍ في حي من أحياء مدينة دمشق التي كانت تشهد أحداثاً دامية.
في غيابه أتمت الصبية أربعةً وعشرين عاماً، لكن من يعرفها عن قرب يعرف أن الزمن في حياتها توقف هناك، عند الشهقة الموجعة التي تلت الخبر، خبر اختفائه.
ماتزال وصال مراهقة، لم ينضج فيها سوى حزنها، تكتب بحزن خمسينية تعرف أن القطار لم يفت، إلا أن الحياة أرهقتها، وقوتها لم تعد تسعفها لشراء التذاكر أو الركض على الأرصفة المكتظة، تفضل الجلوس والتحسر على لحظات العمر الماضية، لكنها حين تبكي، تبكي بحرقة طفلة، بوجع مراهقة تختبر جراح الحب للمرة الأولى.
. . . .
تحتسي لما الأخبار الصباحية من بلدها مع القهوة قبل الخروج إلى معهد اللغة، على شرفتها البرلينية الباردة. تدفع الأخبار عقلها المتعب للتفكير بأفكار شريرة، تحاول نفضها فوراً، تخاف أن تعترف بالعبث والهباء الذي آلت إليه الأمور هناك. ماذا لو اعترفت؟ هذا يعني بالتأكيد اعترافها ضمناً أن موته كان عبثاً وهباء، وهذه تحديداً فكرة لا يسعها أن تعايشها، تفضل الموت على وجع القلب والدماغ.
تواسي نفسها بأن الموت أراحه من رؤية الدمار والخراب، وهو المتفائل بإيمانه العميق أنها وإخوتها سيعيشون حياة أفضل في بلدهم. كلما دارت هذه الخاطرة في ذهنها تبتسم بمرارة: نعم نعيش اليوم حياة أفضل، لكننا لسنا في بلدنا، التراب الذي لفـّك لم يعد يطعمنا، لم نعد نمشي فوقه، لا يمكننا أن نقبله ولا أن نشم الهواء فوق قبرك. سيحدث شيء ما! شيء يغير كل الأشياء!
بهذه العبارة تنفض تداعي الأفكار، تعرف جيداً أنها ستعود إلى نقطة البداية، إلى العبث والهباء، إلى موته.
. . . .
جمانة متصالحة مع الواقع أكثر، بكثير من الكبرياء تعترف أن شيئاً عظيماً انطفأ، أن حلماً جميلاً تحول لكابوس مظلم طويل لا يعرف نهاية. تحمل غربتها هويةً في حقيبتها، وبنفس الكبرياء ترفض التنازل عنها.
تشد قبضتها طوال النهار على الفراق والخسارة، على التشرد والوحدة المريرة، وتعمل بهمة لا تعرف الكلل لهدف تدرك أكثر من غيرها أنه لم يعد قابلاً للإدراك، إلا أنه أصبح قدراً يصعب الفكاك منه، وهي لا تسعى للفكاك أصلاً.
في الليل تفلت قبضتها وتسمح لكل أحزانها بالسيلان، تبكي وتبكي وتكتب أوجاعها نصوصاً ترسلها عبر كل وسائل التواصل إلى الفضاء الواسع، تحاول أن تستعير فوق عيونها عيوناً تبكي معها، لتكون قادرة على الاستيقاظ في الصباح التالي بقبضة مشدودة على الوجع.
. . . .
وحدها سما التي تواجه ما حدث وجهاً لوجه، هي أيضاً خسرت أباً، بالغلط أو بالصدفة أو بطريقة أخرى ربما أكثر عبثية. لم يكن يفترض أن يموت، إلا أنه اختفى وعاد جثة مسكينة لا حول لها ولا قوة.
تدخن معه كل ليلة علبتين، وتبكي مختبئة بين سحب الدخان، لا تريده أن يرى دموعها. إنها نادمة جداً، نادمة على اللحظات الكثيرة التي فوتتها قربه. كان عليها أن تضمه أكثر، أن تقبل يده الحنونة أطول، كان عليها أن تستمع لكلامه بتركيز، وأن تفهم حكمته البسيطة وطيبته وخوفه عليها.
يضع يده على جبينها المشتعل، تنظر في عينيه: لماذا لم نكن صديقين أنا وأنت؟ يهمس لها بحبه القديم وبعينيه البنيتين الحنونتين: لا تحزني، كل شيء على ما يرام. تغفو وقد صدقته، تغفو رغم أن شيئاً ليس على ما يرام.
اقرأ/ي أيضاً:
في وداع سلامة كيلة: الثورة السورية لم تُهزم، الثورة السورية سُحقت