رنا كلش – رسامة وكاتبة سورية مقيمة في ألمانيا
بات جلياً أن هنالك نشاط ثقافي واجتماعي نسائي كبير في الآونة الأخيرة في برلين، يتجلى في العدد الكبير للورشات التي تقوم بها مجموعة من السيدات المهتمات بنشر الوعي الثقافي في محيطهن، وخاصةً الورشات التي تهتم بإلحاق الوافدات الجديدات ودمجهنّ في مجتمعهنّ الجديد.
ولا يخفى أن هنالك سيدات يجدن صعوبةً في اجتياز مرحلة الغربة القسرية، ويبحثن عن مكان يفضين فيه بذوات نفوسهن، مكان يستطعن فيه مشاركة النساء الأخريات تجاربهن وطموحاتهن المستقبلية .وتناول القضايا التي تهم الجالية العربية بشكل عام، والنساء بشكل خاص.
ولأن حاجة الوافدة الجديدة لفهم هذا البلد الجديد شديدة، أصبح من الضروري جمع أواصر الشمل بينها وبين النساء القدامى في ألمانيا، وخلق نافذة لفهم خفايا بعض القضايا، القانونية منها والحياتية، ومن هنا جاءت فكرة دمج إحدى الورشات التي تضم النساء من المهاجرين القدامى مع النساء القادمات حديثاً أو مايسمى (الوافدات الجديدات)، فكانت ولادة الورشة التي أقيمت في المركز العربي الألماني في حي نويكلن منذ مايقرب الشهر في محاولةٍ لدمج كلا الطرفين وأقصد هنا النساء العربيات المختلفات في المدة الزمنية للهجرة والاغتراب.
لم تكن هذه الورشة جديدة في المكان، بل هي إحياءٌ لورشة سابقة تقام دورياً كل أسبوع منذ حوالي ثلاث سنوات، تتناول المشرفات والنساء الأحاديث في شتى المجالات أثناء تقديم وجبة إفطار، وفي بعض الأحيان تقوم الحاضرات بخياطة الألبسة وابتكار بعض القطع اليدوية.
وبالطبع لم تكن اللحظات الأولى إثر وصول اللاجئات الجديدات للتعرف على هذا المكان ونسائه سهلة، إذ تطايرت في الأجواء الكثير من نظرات التساؤل والترقب، حاولت المشرفة على الورشة إطفاء التوتر من خلال الإشادة بجهود المشاركات في الورشة القديمة وأعمالهن اليدوية المتقنة، لكنّ ذلك لم يكن كافياً، فشعرت بعض الوافدات الجديدات بجو من عدم التقبل والارتياح، مما أبعد أي فكرة لترطيب الجو بنكتة، أو محاولة للتظارف، إلى أن قلت: “نحن نتشارك في الأقدار، خرجنا من بلادنا كما خرجتم يوماً من بلادكم”.
هنا عم الصمت ثم قالت إحداهن: “لقد قضت عائلتي خمسة عشر عاماً دون أوراق رسمية، أو إقامة، أو حتى ضمان صحي، أما أنتم فكانت معاملتكم مختلفة، نصفكم حصل على الإقامة قبل أن يكمل عامه الأول هنا”، شاركتها صديقاتها الرأي بالإيماء، ثم أضافت أخرى بأن هذه الورشة لهنّ، وطوال السنوات الثلاثة المنصرمة لم يطرأ عليها أي منغص أو دخيل حتى الآن.
بات جلياً لنا كضيوف أن المكان تتداعى جدرانه بالدخيل الغريب، وبأننا ربما أخطأنا بالقدوم، إلى أن قالت إحدى السيدات من القدامى بأن ذلك ليس ذنبهنّ، وأن الحرب لم تترك مكاناً للبقاء، واعترفت بأنها التقت بنساء جديدات هن مثال يحتذى في العلم والثقافة والاجتهاد، وبعضهن بدأن فعلياً بالانخراط في سوق العمل. أثّرت تلك الجملة ببعض الحاضرات فدمعت أعين بعضهن، وتحركت أيدي أخريات بالتصفيق.
ربما كان من المتوقع هدم بنيان هذا الهدف في لم أواصر جيلين في المغترب معاً، لكن الإصرار والإرادة يغيران كل عصيٍّ على التغيير، فكانت نتائج الجلسة الثانية مغايرة للأولى، حيث لمست السيدات الجديدات تغيراً في ملامح السيدات القدامى، وأشادت إحداهن ببعض النماذج الإيجابية التي لمع اسمها من اللاجئين الجدد، وختمت حديثها بأنها تتذكر تجربة لجوئها الأول، وبأنها تقاسم الجديدات نفس الوعكة الوجدانية جراء الحرب في بلادها (حرب لبنان)، هنا تبدّت على الوجوه البسمة والود، وبات التغير ملموساً من خلال همهمات النساء، وتجاذبهنّ أطراف الحديث.
وازداد تفاعل الحاضرات واقتراحاتهن حول النشاطات اللتي يحبذن تعلمها في ورشتهن، ومنها على سبيل المثال طلب إحدى السيدات القدامى تخصيص دروس لتعليم اللغة العربية لكبار السن، فهي تتمنى تعلم كتابة العربية وقراءة حروفها، إذ لم تنل فرصة تعلم اللغة العربية، لانها وفدت الى ألمانيا عندما كانت طفلة، ولم تكن حينها المدارس العربية متوفرة بكثرة.
لقد كانت التجربة الأولى على صعيد التقارب بين جيلين من المهاجرين قديمه وجديده، تحمل في طياتها الكثير من الأسئلة، أهمها ماهو الشرخ الذي يمنع دمج بني الجلدة الواحدة، وأين أصحاب المبادرات عن مهمة لم شمل بني يعرب في مهاجرهم ومغترباتهم معاً.
لم تكن الطاولة الطويلة التي جمعت النساء العربيات بأزمان غربتهن المتفاوتة مستحيلة، ولم تكن تلك الغاية بعيدة المنال حين وجد الهدف والمكان. لابد أن نعترف بأننا لا نعدم الوسيلة إن أردنا أن نغير حقيقة واقعنا ولكن ربما فقط إن وضعنا قلوبنا على طاولة واحدة، طاولة بين جيلين.
إقرأ/ي أيضاً:
الرضوض النفسية (التراوما) في آداب المنافي واللجوء: تأملات حول قديم وجديد آداب المنافي ج3 والأخير
من ألمانيا إلى دويتشلاند.. هل تشبه هذه البلاد ما كنت تتخيله عنها؟
زاوية حديث سوري: ما بين أبو عصام وأبو نابليون
الجزر البشرية الغريبة: أسئلة شائكة عن الهوية والاندماج