ديما مصطفى سكران
إذا رفعت سماعة الهاتف لتأخذ موعداً عند الحلاق في ألمانيا، فسلَّمت على موظفة الصالون، ثم عرّفت عن نفسك بأنك: الدكتور الفلاني، أو الأستاذ الفلاني، أو المهندس الفلاني، أو الضابط الفلاني أو أو… فإن كلامك هذا ستتلوه غالباً لحظة صمت على الطرف الآخر من الهاتف، تَرفعُ فيها الموظفة حاجبيها بدهشة أو تبتسم بسخرية، قبل أن تحدد لك موعدك المبتغى.
على عكس ما هو شائع في البلاد العربية، من أن يُعرِّف المرء بنفسه مضيفاً لنفسه لقبه الذي منحته إياه شهادته العملية أو موقعه المهني، فإن ذلك يعتبر في ألمانيا ضرباً من الغرور والتباهي، لا يقابل إلا بالاستغراب والاستنكار.
عليك إن كنت خارج مكان عملك أو مؤسستك العلمية، أن تُعرِّف عن نفسك باسمك العاري عن أي لقب، لكي لا يبدو الأمر وكأنك تنتظر معاملة خاصة تليق بـ “مقامك”، بل يجب عليك ذكر اسمك المجرد لكي تتساوى أدباً مع محدثتك، فلا تشعرها بالنقص إذا كانت لا تحمل لقباً مساوياً للقبك، أما هي فسترد بنعتك باللقب الذي يحمله كل الناس في بلادها: أهلاً سيد فلان، أو أهلاً سيدة فلانة.
وأنت سيدٌ على نفسك وليس عليها، فهي أيضا سيدة، وكل الناس في ألمانيا سادة وسيدات، ولا تميزهم عن بعضهم ألقاب أخرى، حتى أن المستشارة الألمانية ذات المكانة الرفيعة، تخاطب في البرلمان أو يُتحدث عنها في حوارات العامة بلقبها البسيط هذا: السيدة ميركل.
ويحتاج رفع هذه الكلفة في أي علاقة وقتاً، تُحدد مدته طبيعة هذه العلاقة أو ليونة أطرافها. ففي أماكن العمل والدوائر الرسمية مثلاً، يندر أن يرفع الزملاء الكلفة بينهم، ولا يصح رفعها إلا إذا بادر بطلب ذلك، الشخصُ الأعلى مركزاً أو الأكبر سناً أو الأقدم في المؤسسة، فتتحول صيغة المخاطبة من صيغة الجمع والاحترام “حضرتكم “SIE إلى صيغة المخاطب المفرد “أنت DU “.
وعلى الرغم من بعض التراخي في رفع الكلفة في ألمانيا بين جيل الأمس وجيل اليوم، إلا أن المخاطبة بال SIE هي الأساس والقاعدة العامة، وتعتبر مخاطبة المرء باسمه الأول دون معرفة مسبقة بين الطرفين، ودون استئذان، شكلاً من أشكال الإهانة وقلة الاحترام.
من المقبول في مجتمعنا أن يذكر المرء لقبه عند التعريف عن نفسه، فيفرضه على محدِّثه، ويُلزمه باستخدامه أثناء مخاطبته.
وقد يكون هذا مفهوماً عندما يكون المرء في مؤسسته العلمية، أو في مكان عمله، أو في نقابته بين زملائه. ويكون هذا الأمر أيضاً غاية في اللطف لو بادر به الطرف الآخر من باب الأدب واللباقة وحفظ المقامات، ولكنني لا أجد من اللطف أو التواضع أبداً أن يمد طبيبٌ غنيٌ، أو مدرسٌ قديرٌ، أو ضابطٌ رفيعٌ يده إلى رجل بسيط يقطن بجواره، أو إلى موظف صغير يعمل في متجر قريب من بيته، أو إلى جليسه في غرفة انتظار، أو إلى محدثه في جلسة ودية، فيعرف عن نفسه في زهو:” أنا الأستاذ فلان الفلاني، أو أنا الدكتور فلان الفلاني” بدايةً، وقبل أن يُسأل حتى عن ذلك!
إن هذه اليد الممدودة، التي سبقها لقب رنان، قد تُوقع في نفس الطرف الآخر شيئاً من الإحساس بالدونية، حين يكون اسمه اليتيم عارياً عن أي لقب يسدله بتفاخر مماثل على عورة كبريائه. لن تكون المصافحة في هذه الحالة مصافحة للتعارف الإنساني الحقيقي، بل ستكون تذكيراً من طرف لطرف بوجود فارق اجتماعي، لا يجب أن يكون له وجود في الدولة التي تصون كرامة الإنسان، وتحفظ حقه في المساواة.
اقرأ أيضاً:
ألمانيا… وطن بديل
أسئلة “الوطن” التي لا تنتهي
ماذا يعني الوطن يا أنا؟
بالاحترام والأمان والاستفادة من الفرص .. هكذا يجد الوطن طريقه إلينا