استطاع فيلم الكهف طوال 95 دقيقة أن يصور أغلب الأهوال التي مرت على مشفى في الغوطة المحاصرة بدءاً بالقصف شبه اليومي وانعدام الاحتياجات الأساسية لسكان المنطقة المحاصرين وحتى الهجوم بالسلاح الكيماوي. فيلم كله أبطال:
الدكتور سليم نمور مؤسس المشفى الجراح المتفاني الذي يجهش في إحدى لحظات العجز أمام هول ما يحدث، الدكتورة أماني التي انتخبها فريق المشفى لتتولى الإدارة في ظروفٍ منهِكة، وفي مواجهة مجتمع ذكوري لم يعتد رغم هالة الاحترام الكبيرة التي تحيط بصفة ومركز “المرأة الطبيبة”، أن يتجاوز فكرة أن الإدارة لطالما كانت فعلاً رجولياً بامتياز حتى ما قبل الحرب والثورة. إلى الممرضة سماهر مساعدة الجراح، المرأة القادرة بإعجاز على كل شيء من المساعدة في العمليات الجراحية إلى التنظيف وإطعام عشرات العاملين في المشفى مع حس عالٍ بالفكاهة.
يعيش المشاهد لحظات الأمان المحدودة مع شخصيات الفيلم وهم في النفق الذي يربط أقسام المشفى ببعضها وبما حوله، أو في ساحة لعبٍ صغيرة مخصصة للأطفال في فرحهم الصغير، ولكن يصبح التنفس مؤلماً أيضاً أمام شاشة السينما على مسافة أعوامٍ وآلاف الكيلومترات بعيدا ًعن ضحايا الهجوم بالسلاح الكيماوي وأغلبهم أطفال، نرى وجوه العشرات منهم بعيون ذاهلة ولكنهم ناجون أو هكذا نتمنى. جميعهم أبطال وأيضاً ضحايا..
وللإضاءة على مفهوم النجاة ومدى تحققه لدى فئة واسعة من السوريين لاسيما من تعرضوا للحصار والعنف الهمجي ومن ثم التهجير من قبل النظام، التقت أبواب بالدكتور سليم نمور والذي كان يعرف بصخر الدمشقي في حوار مطول، وفيما يلي بعض ما جاء فيه:
– هل يمكن اعتبار الشخص ناجياً بمجرد مغادرته لمنطقة الحرب؟ وماذا تعني لك فكرة النجاة عموماً؟
بدايةً، لا أعتقد أن من خرج من الحرب هو ناجي، ولكن يمكن أن أعتبره آمناً، فلا يمكن للإنسان أن ينجو بعد خوضه لهذه التجربة القاسية إلا إذا تخلص من ثلاثة أشياء وهي: آلام الماضي، معاناة الحاضر وتحقيق أحلام المستقبل، وهذا ما أعتبره مهماً على المستوى الشخصي والاجتماعي والوطني. ولذلك لا أعتبر نفسي ناجياً، ولكنني أعيش حياةً آمنة.
– لو تمكنت من تغيير خيار أو قرار ما اتخذته، فيما يخص مغادرتك لسوريا، فما الذي كنت ستقوم به بشكل مختلف؟
أعتقد أنني ولو عاد بي الزمن إلى الوراء، كنت سأتخذ نفس الخيارات، وهنا أقسم حياتي إلى ثلاث مراحل: مرحلة ما قبل الثورة، تلك التي عشت فيها حياة شخصية بما في ذلك كل ما بنيته وأحرزته لنفسي. ومرحلة الثورة، وكانت هي المرحلة الوحيدة المضيئة في حياتي حيث أعتبر أنني من خلالها حققت شيئاً مهماً، فبعد أن قمت بتأسيس مشفى الكهف، بدأنا بتطبيق نموذج سوريا الذي نحلم به في هذا المشفى، في موضوع تداول السلطة والإدارة داخل المشفى على سبيل المثال، استلمت الإدارة لمدة سنتين فقط رغم أنني المؤسس، ثم طبقنا فكرة تداول الإدارة أو الانتخاب، حتى توصلنا لانتخاب طبيبة من جيل الشباب. ليس لأنها سيدة فقط بل وأيضاً أنها من جيل الشباب وهذه تعتبر سابقة.
عشنا في هذه المرحلة حالة صراع وتحدي للموت والهمجية، لكننا استطعنا البقاء، استطعنا بناء مؤسساتنا، استطعنا العيش على أمل الحرية وبناء سوريا المستقبل، لكن وللأسف وحشية وهمجية الروس هي التي أخّرت هذا الحلم مؤقتاً.
– ماذا قدم لك فيلم الكهف على الصعيد الشخصي، وما الذي قدمه للمشاهد برأيك؟
قام بتصوير فيلم الكهف مصورون أبطال كانوا متواجدين معنا، وهم جزء من الكادر الإعلامي الذي كان يعمل في الغوطة آنذاك. استطاعوا أن يتبعونا خطوةً بخطوة في تفاصيل حياتنا اليومية، في صراعنا من أجل البقاء وصراعنا لتقديم الخدمات لأهلنا الذين يتعرضون كل يوم لجريمة وحشية.
أعتقد أن أهمية الفيلم تكمن في أنه ضرب بروباغاندا النظام التي تعتمد على التزييف والفبركة والكذب في الصميم. فالنظام يدعي أنه يحارب متطرفين متخلفين وعنيفين، لكن الفيلم قدم حقيقة الناس ليقول أن الإرهابي هو الذي يقصف المدنيين، وأن هؤلاء الناس ما هم إلا ضحايا استطاعوا رغم كل شيء الصمود في وجهه من أجل الحياة، حتى استطاعوا تطبيق تجربة فريدة من نوعها في هذه الحرب وهي تجربة الكهف.
– إذا أخذنا بالاعتبار أن تنفيذ الأفلام الوثائقية يتم بحسب خريطة أو بوصلة خاصة بالجهة المنتجة، فلأي درجة حقق “الكهف” رسالة أبطاله الحقيقيين؟
لاشك أن شركات الإنتاج تشدد على قضايا رائجة مثل مسألة الجندر وقضية المرأة، لكننا في ثورتنا السورية ورغم أن قضية المرأة لم تكن السبب الرئيسي لتحريك الثورة لكنها كانت أحد الأسباب الهامة، فنحن كسوريين كنا ومازلنا نطالب بحقوقنا الإنسانية، والمساواة بين الرجل والمرأة هو أحد تلك الحقوق التي قمنا بالثورة من أجلها، وهذا ما قمنا بتطبيقه في تجربة الكهف وقد نجحنا حقاً في تحقيق تلك المساواة.
ويمكنني القول أن فيلم الكهف قدم الكثير للثورة، وكذلك الأفلام الأخرى التي ألقت الضوء على جوانب من معاناة السوريين في مناطق مختلفة كفيلم “إلى سما”. حيث أنه فضح للمشاهد أيضاً هوية السفاح وهو النظام، وهوية الضحية وهي الشعب، كما ألقى الضوء على الدور الحقيقي والفاعل للمرأة وأننا لسنا ذلك الشعب المتخلف الذي عرفه بشار الأسد الذي ينحاز لذكوريته، وأخيراً، أثبت الفيلم أن الشعب السوري مازال لديه أمل في التحرر من الطاغية، ومازال يحلم بسوريا المستقبل.
عندما أسمع النقاشات التي يخوضها مشاهدون أوروبيون بعد الفيلم ومدى التأثر أو البكاء أحياناً، واعترافهم بالتغيير الكبير الذي طرأ على مشاعرهم وفهمهم للثورة السورية بعد العرض، ومدى شعورهم بالتقصير وتأنيب الضمير، أوقن أكثر بأن “الكهف” هو أحد الأدوات الفعالة التي ستغير كثيراً في المستقبل من نظرة العالم لثورتنا وطريقة تعاطيه معها. وأنا بهذه المناسبة أشكر المخرج المبدع فراس فياض من كل قلبي، الذي استطاع من خلال قصة الفيلم عرض واقعٍ بانورامي لمأساة السوريين على يد الوحشين الأسد وبوتين.
– تعقيباً على مقابلة بشار الأسد مع صحفية إيطالية مؤخراً وجهت له الصحفية سؤالاً فيما إذا كان يعتبر نفسه ناجياً، فما هو تعقيبك على سرقة النظام لفكرة النجاة، وهل تعتقد أنهم ناجون؟
من يراقب حركات بشار الأسد وطريقة حديثه، يشعر أن هذا الشخص مهزوز نفسياً، وعبّر عن ذلك بعض من قابله من صحفيين، حتى وُصِف بأنه شخص منفصل عن الواقع. أتذكره من الفترة التي كان فيها طبيباً مقيماً في مشفى تشرين، لم يكن تلك الشخصية المهمة أو الملفتة، كان يحمل صفةً واحدة مميزة فقط وهي “ابن الدكتاتور”.
أما إذ يريد القول عن نفسه بأنه نجا، فأنا أقول أن منظومة الأسد بدءاً من بشار الأسد إلى أصغر شبيح فيها، لم تنجُ، ولن ينجو أحد فيها بل وبالعكس، تراهم اليوم غارقون في خطاياهم تلاحقهم أنات ولعنات ضحاياهم في أحلامهم، وستبقى تطاردهم لأجيال قادمة.
– ماذا ستبني للمستقبل بعد تجربة “النجاة” وتجربة “الكهف”، أين ترى نفسك في السنوات المقبلة؟
نحن الآن في واقعنا الجديد، مازلنا نحمل القضية، مازلنا نعاني همومها، ومازلنا غير ناجين، ولا أعتقد أننا سننجو قبل عودتنا إلى بلدنا وخلاصنا من هذا الوحش الجاثم على صدورنا، وبناء سوريا التي نحلم بها. لا أرى نفسي إلا الدكتور سليم، وصخر الدمشقي، المناضل من أجل الحرية ومن أجل التغيير. صحيح أننا خرجنا من أرضنا، لكننا لن نوفر جهداً حتى نصل بثورتنا إلى خواتيمها، ونحتفل الاحتفال الحقيقي في ساحة الأمويين بحرية بلدنا.
أخيراً، أحب أن أوضح فكرة أؤمن بها كثيراً وهي: أنه إذا استطاع نظام الأسد سرقة جغرافيا سوريا، لا يجب أن نسمح له بسرقة التاريخ، لأنه إذا استطاع سرقة تاريخنا فإنه سيسرق مستقبلنا. لذلك فإن فيلم مثل فيلم الكهف أو أي أعمال فنية أو ثقافية تستطيع أن توصل رسالة الثورة السورية إلى نخب العالم وإلى مجتمعات العالم، هي بمثابة حماية للثورة ولإرثها التاريخي ولمستقبل سوريا.
فيلم الكهف من إخراج فراس فياض، كتابة أليسار حسن وفراس فياض، ومن إنتاج “ناشيونال جيوغرافيك” ينافس في القائمة القصيرة المرشحة للأوسكار 2020. حصل “الكهف” على جائزة أفضل فيلم وثائقي باختيار الجمهور خلال فعاليات مهرجان تورنتو السينمائي الدولي لعام 2019 ، كما حصد عشر جوائز عالمية أخرى أبرزها جائزة أفضل فيلم وثائقي بمهرجان بلد الوليد السينمائي الدولي لعام 2019.
خاص أبواب، حوار: سعاد عباس
اقرأ/ي أيضاً:
مجلس أوروبا يمنح السورية “أماني بلور” جائزة “راؤول فالنبرغ” لعام 2020
فيلم “إلى سما”.. كيف سمح العالم بحدوث كل هذا؟
الأوسكار 2020: قائمة الأفلام والممثلين المرشحين للفوز بجوائز هذا العام