غيثاء الشعار. كاتبة سوريّة، تدرس (السياسات العامة) في برلين
لم يخترع غوته معجوناً للأسنان ولا كريمات للوجه.. لذلك سيكون الكاتب الأكثر شهرة في ألمانيا مندهشاً للغاية إذا وجد نفسه فجأة في شركة المستحضرات الصيدلانية (DM) وذلك لأن أحد أهم شعاراتها مقتبس من قوله: “أنا هنا إنسان، هنا قد أكون” فكان شعارها: “أنا هنا إنسان. هنا أشتري”، وهذه ليست مصادفة، لأن غوتس فولفانغ فيرنر مؤسس DM لا يشترك مع غوته فقط بالاسم الأوسط، ولكن أيضاً بالفلسفة وراء هذا الاقتباس، لأنه يضع الإنسان وليس البضاعة أولاً.
قد يظن من يدخل محلات (DM) أنه في محل عادي وأن الموظفين في فروعه يعملون في ظروف مشابهة لأي مكان آخر، لكن الواقع أن له سياسة خاصة بالعمل والقيادة والتعامل مع الزبائن والعاملين، وهي أحد أهم أسباب نجاحها ووصول عدد فروعها إلى 2900 فرع في أوربا مع 61700 موظف، ومتوسط دخل كل فرع في ألمانيا أكثر من 13000 يورو في اليوم.
يقف وراء تميز DM رجل الأعمال المتميز غوتس فيرنير الذي عمل في إدارتها لمدة 35 عام بدءاً من تأسيس أول متجر في مدينة كارلسروه عام 1976 وحتى عام 2010، حصل خلال هذه السنوات على أهم الجوائز منها وسام الاستحقاق الفيدرالي وجائزة التجارة الألمانية وغيرها الكثير، وتم تصوير عدة أفلام وثائقية عنه، وكان ومازال حاضراً في الصحافة الألمانية كإنسان ناجح ومختلف عن الصورة النمطية للبزنس مان.
يروج فيرنر للمشاريع الثقافية والاجتماعية مثل جائزة هيرمان هيسه، ويمول ملجأً للأطفال المشردين في الإسكندرية (مصر) ودروس الموسيقى المجانية للأطفال. انطلاقاً من تعاليم رودولف شتاينر عن الأنثروبولوجيا، وهو من أكثر المدافعين عن الدخل الأساسي في ألمانيا حيث يدعم الحق غير المشروط لكل مواطن بالحصول على ألف يورو شهرياً وتخفيض الضرائب كشرط للحرية والعيش بكرامة، وتعود هذه الفكرة للعام 1982 عندما بلغ عدد العاطلين عن العمل في ألمانيا حداً مخيفاً.
كل النظريات معكوسة عند فيرنر، فبرأيه أن الرأسمالية وجدت لخدمة الناس وليس العكس، ويعمل بشكل حقيقي لتطبيق مبدأ الجودة أهم من الكم، ويكرر دائماً أن عمال DM هم رأس ماله الحقيقي وهم زملاؤه وليس عماله، لذلك يلاحظ من يزور محلات DM غياب كاميرات المراقبة، لإظهار الثقة بالموظفين إذ يسعى فيرنر لبناء علاقة جيدة بينهم وبين مكان العمل لأنهم يقضون فيه جزءاً كبيراً من حياتهم. كما يمكنهم تحديد ساعات عملهم بأنفسهم بما يناسب ظروفهم، فضلا ًعن ارتفاع رواتبهم مقارنةً مع شركات آخرى، ومن الواضح أن غالبية الموظفين هم من النساء اللواتي يصفهنّ فيرنر بالمبادرات اللطيفات مع الزبائن.
يعطي فيرنر لكل فرع الحرية في تحديد رواتب الموظفين، واختيار تشكيلة البضائع. وإن حرية رؤساء الأفرع هذه هي السبب في جعل أسعار العديد من المنتجات تنافسية، إضافةً لرضا العملاء حسب محللين.
تعتبر هذه الشركة نفسها شركةً تعليمية، يكمل المتدربون مشروعين مسرحيين أثناء تدريبهم، وهناك كورال خاص بموظفي DM، كما ينبغي عليهم تعلم مهارات التواصل والقدرة على التعاطف مع الآخرين، والممارسة الموجهة نحو الهدف ليتمكنوا من العمل بسلاسة وكفاءة حسب ظروف السوق المتغيرة باستمرار.
غوتس فيرنير من مواليد هايدلبيرغ عام 1944. هو ابن لعائلة كانت تعمل بالمستحضرات الصيدلانية، المهنة التي أخذها عنهم، وربما يعود اهتمامه بالأنثروبولوجيا لتأثره بوالدته التي درست علم النفس.
بعد المدرسة الإعدادية التحق بمدرسة تجارية في كونستانز، أكمل فيها تدريباً في الصيدلة، وفي العام 1968 كان بطل شباب ألمانيا للتجذيف والذي يقول أنه علمه عدم الاستسلام وكيفية مقاومة التيار.
اكتسب خبرة مهنية في العديد من الشركات وأخيراً دخل عام 1968 ليعمل في متجر والديه في هايدلبرغ. وانتقل في العام التالي إلى متجر آخر، حاول إعادة تنظيم المبيعات، واقترح إدخال مبدأ الخصم، لكن مقترحاته رُفضت، فغادر وأسس أول صيدلية له.
وفي 1976 توسعت فروع DM إلى النمسا، وبعدها بالتدريج إلى أوروبا كلها، لتصبح أشهر علامة للمواد الصيدلانية حالياً. في عام 2008 تم تعيين فيرنر أستاذاً زائراً في قسم الاقتصاد في جامعة ألانوس للفنون والمجتمع، يعلم طلاب البكالوريوس “إدارة الأعمال، إعادة التفكير في الاقتصاد والأعمال المستدامة”.
قام بكتابة سيرته الذاتية، لم يتحدث فيها عن المراحل المختلفة من حياته فقط، لكن قبل كل شيء فسر فلسفته الخاصة بالعمل والحياة.
خلال قراءتي عن أفكار السيد فيرنر ومشروعه المهني والإنساني، تساءلت عن سبب قلة رجال الأعمال الأغنياء جداً ومع ذلك هم خلوقين، مثقفين ومهتمين بالإنسان كقيمة وليس كرزمة من المال، والسؤال الثاني الذي سيبقى دون جواب إلى أجل غير مسمى، وهو فيما إذا تم تطبيق الدخل الثابت في ألمانيا، هل سيشمل اللاجئين والمهاجرين؟ وهل سيجذب المزيد من المهاجرين إلى ألمانيا؟ رغم أنني أجد أن حق جميع سكان الدول الفقيرة الهجرة إلى أوربا وأميركا طالما هذه الدول مساهمة بشكل أو بآخر في جهل وتخلف وفقر بلداننا.
مواد أخرى للكاتبة: