سوزان علي . شاعرة من سوريا
في زمنٍ مضى، أخبرتني جدتي وهي تجلس وسط حديقتها تزيل السوس وسط حبات العدس، وببطء وخوف كان صوتها يزيل أيضًا ستائر الخجل عن ليلة دخلتها، وعن مفاجأةٍ لا تخطر على بال الشياطين الزرق، كان جدي قد حضرها وانتظر دخول جدتي الناموسية البيضاء وجلوسها فوق السرير النحاسي، حتى يعلن عن هديته الثمينة، ماذا تتوقعون أيها القراء؟
هل تخيلتم خاتمًا مرصعًا بالياقوت، أم وردة قرنفل بلدية؟ أم كيس حناء كان دارجًا للزينة في تلك الأيام؟
لا تذهبوا بعيدًا في خيالاتكم، باستطاعتكم ببساطة معرفة أحوال المرأة كيف هي الآن، وبسرعة ستحزرون مفاجأة جدي، إذ لا فرق يذكر بين لهب شمعتهم وانحناء ظهورنا.
كان جدي يخبئ تحت الغطاء الموشى بالقصب، عصا رمان طويلة، ما إن جلستْ جدتي خجولةً يتيمة مرتعدة، حتى انهال عليها بالضرب كجريمةٍ أمام دليلها، ولم يترك مكانًا في جسدها خاليًا من لسعات “قضيب” الرمان، الذي يمتاز بخفة في يد من يمسكه وبصوتٍ كحفيف العاصفة بين الشجر، ما يجعل الضربات قوية وسريعة ونافذة وتحفر جروحًا لا تزول ربما لعدة أشهر.
حسنًا، لقد ارتكب جدي المثل الشعبي الذي يقول: “اقطع رأس القطة من أول ليلة”
“ثم ماذا حدث؟” سألتُ جدتي والسوس بدأ يدخل فمي.
“نزع عني ثيابي ونام فوقي وانتهي الأمر” أجابت جدتي بصمت، كما لو أنها لم تتكلم.
تذكرت هذه الحادثة، وأنا أعدّ الإفطار هذا الصباح، وفي فمي سؤال مربك معقد يدور منذ ليلة أمس، لماذا تضربني أيها الرجل الحزين؟
هل لأن التفاحة كانت لذيذة إلى الحد الذي يقتلك فيه الإثم من أن تتلذذ مرة أخرى وتسقط في خطاياك؟
قالوا لك بأنني أفعى وحفرة، نعم لقد دخلتَ المدرسة ثم الجامعة ثم عملت في الميدان الذي تحبه، لكنها القشور أيها الرجل الحزين، أما اللبّ فهو دائخ بين شعورك ولا شعورك، بين ما كنت تحبه، وبين المصباح الذي وضعه المجتمع في يدك وقال لك هيا سر فأنت قائد القطيع.
لماذا تضربني؟
أمك التي تمنت حياة أخرى مثلك تمامًا، التي قرأت كتابًا بيد وباليد الأخرى مسكها العالم ورماها فوق رفٍ خشبي مع صحون وملاعق وتذكارات.
هل تعلم بأن النهد الذي أرضعك أنت وأخوتك والهواء، ضُرِبَ وشُتِمَ حتى سال منه حليب أسود.
لماذا تضربني أيها اللحم؟
أنا أختك الصغيرة، لديّ بطن مكور رطب يتخيل بأن العصافير تعيش في أحشائه، ولدي مرآةٌ تقمع سَكينتي كلما حاولت أن أدفن الخدوش التي خططتها على ذراعي بسوطك الجلدي. لم تسمعني وأنا أصرخ وأقول لك من زاويتي الباردة: لا دخل لخوفك في دورتي الشهرية، ما ذنبي إن كان الله خلق لي دمًا ينزف مرة كل شهر.
لماذا تضربني أيها الندبة؟
أنا زوجتك المقسومة نصفين، ليدك الخشنة في السرير وليدك الطويلة في صفعي. حاولت أن أكون مجدافًا، سهرت الليالي كي أنقذ قلبي من الهرب، حملت طفلتنا على ظهري ورقصت، غنيت في حنجرتكَ ليالٍ طويلة وكنت تفيق وعلى صدرك فأس صدئة.
لماذا تضربني؟
أنا عاهرة يتيمة خلدت الى الحلم في ليلة مثلجة، كانت فيها الحكايا سكرانة دون مصب ، قاومت القمر ورؤوس الشجر ورحت اتذكر الأرائك والبيوت وموائد العشاء، لكن للخيال سيف ان لم تشحذه يقتلك أو يموت، ومات سيفي وأنا مراهقة، جئتك عارية كي تغطيني، لكن غطاءك كان ممزقًا ومهترئًا، هل ضربتني في الأمس لانك اكتشفت بأن غطاءك ممزق؟
هل تضرب لعبتك في الطفولة التي تمنيت أن تكون ملككَ ولم تستطع يديك الاستحواذ على ذيلها حتى.
هل تضرب أباك الذي شتمك أمام اصدقائك مطولًا، ولم تستطع حينها رد الشتيمة أو حتى الدفاع عن نفسك؟
هل كسرك الحب في المراهقة فرميت تأوهاتك في صندوق خشبي أكله الدود لكن تأوهاتك هربت ودخلت رأسك؟
ومن يضربني؟
يدك أم تلك التأوهات المعتمة التي لم تجد قاربًا ينقذها أو يدًا تحنو عليها أو سقف.
العصا تضربني أم كلماتك المترددة الخائفة، أم فشلك في الحب، في أن تكون ما تحب، فتكونه بعضلاتك فوق جسدي.
أحزن لأجلك، فأنت مثلي ضحية لكن الفرق بيننا، أنك تجلس تحت مزراب لا يتوقف عن تكرار المياه ذاتها، فيما طفى قلقي وصار أخف من الغرق فهربتُ مع ما تبقى مني، فأنا محظوظة.. العالم لم يعِرني نظره فكبرتُ وحدي وتشكلت أنيابي في ظلي، وحدي وحدي.
هل فكرت بالهرب يومًا من نفسك؟ طائر ضعفك الصغير الذي سجنته دون هواء أو غذاء، ألم يمل من قفصه؟
ليست هذه العصا من يضربني، بل إنها خصلات الشيب في طفولتكَ التي لم تجد لها أرجوحةً ومدى. كانت تنوي أن تصير موجة، لكنّ أمك وأبيك حنطاها ووضعا تمثالاً في قفصك الصدري.
لكن ماذنبي أنا أيها اللحم السميك، أنا أيضًا كان لي أم كأمك تمامًا، تغسل الصحون بإسفنجة مهترئة عند العصر، تتمايل بخصرها السمين وبسعادة تغني:
لا تضربني لا تضرب
كسرت الخيزراني
صرلي سنة وست أشهر
من ضربتك وجعاني…
وكنت مثلك أتسلق درج البيت وأصعد السطح، وأنظر إلى السماء وأقول: يالله أرجوك لا تضرب أمي.
اقرأ/ي أيضاً:
بين الذات و الجسد.. الجمال الآثم
إذا ضربك فهو يحبك! في سياق مكافحة العنف المنزلي.. الحمل الثقيل الذي سافر معنا
ماذا نفعل حين نتعرّض للإساءة أو التحرش أو الاعتداء الجنسي؟