يعرفه السوريون من مسلسلاتٍ شهيرة، غيرت الصورة النمطية للدراما في سوريا، مثل خان الحرير بجزأيه، والثريا، الخيط الأبيض وغيرها، كما اشتهر أيضاً بأعماله الروائية ومنها: السرطان، رياح الشمال – سوق الصغير، حالة شغف، وخان الحرير التي استمد منها المسلسل الشهير.
غادر نهاد سيريس مسقط رأسه حلب في مطلع عام 2012 متجهاً إلى مصر، لكنها كانت محطةً في رحلته، حيث غادرها لاحقاً ليستقر في ألمانيا، ليتابع الكتابة في بعض الصحف الألمانية مثل جريدة تاتز، و زود دويتشه تسايتونغ.
التقت أبواب بالكاتب نهاد سيريس، الذي عرّف عن نفسه بأنه روائي قبل كل شيء. يقول سيريس: “بدأت بالرواية، وأعتقد أنني سأنتهي بالرواية أيضاً. كانت تجربتي مع الدراما التلفزيونية تجربة تمتعت كثيراً بكتابتها، إلا أنني أعتبر نفسي روائياً”.
لو بدأنا بالدراما، كانت لك تجربة مميزة على صعيد الخروج عما كان شبه فرض مطلق للَّهجة الشامية والقصص المتشابهة في الدراما، فهل تعتقد أنك أحدثت قفزة جريئة في هذا المجال، لاسيما في مسلسل خان الحرير؟
نعم، ليس فقط على صعيد اللهجة الحلبية، وإنما أيضاً على صعيد تقديم مدينة حلب بشكل دراما إلى مشاهديها، بكل ما تتمتع به من مكانة تاريخية وثقافية وموسيقية وغيرها.
حلب هي مركز اهتمامك في الرواية والدراما التلفزيونية، فهل هذا بسبب الارتباط العاطفي مع حلب، أم لأن هذه المدينة ذات طابع متميز وتطرح قصصاً لا تتشابه مع المدن السورية الأخرى؟!
تلعب ذاكرة الكاتب دوراً محورياً في الكتابة، ولكن لم تكن الذاكرة ومسرح الطفولة والمجتمع الذي عشت فيه، هما السببين الوحيدين في تركيزي على مدينتي، بل لأن حلب تمتاز بتاريخ وثقافة مهمتين بشكل مطلق.
هناك اللهجة والثقافة المحكية والموسيقى أيضاً، لدينا موسوعات لغوية حلبية وكذلك موسوعات في الأمثال الشعبية الحلبية وغيرها الكثير، ولا ننسى أيضاً دور حلب السياسي والاقتصادي والصناعي في بناء سورية. لقد أثرت المدينة بشكل إيجابي في بناء سورية الحديثة.
هل ستكتب عن حلب بعد كل ما لحق بها من دمار؟ وهل تعتقد أن هذه المدينة قادرة على العودة “حلب كما كانت”؟
إنني أكتب الآن عن الأماكن في المدينة كما عرفتها سابقاً، وكيف تظهر الآن وهي مدمرة. أما إذا ما كانت المدينة ستعود كما كانت فأنا أشك بذلك، فقد خسرت المدينة الخبرة التي جمعتها خلال أجيال عديدة، كما خسرت نصف الجيل الشاب، لقد خسرت معظم الجيل الذي يحمل الذاكرة وخسرت الشباب الذين عليهم أن يعيدوا بناءها، بناءً عليه فإن حلب القادمة ستختلف عن السابقة ولن تكون حلب التي عرفناها.
بعيداً عن التلفزيون، هل يوجد تقاطعات في أعمالك الروائية، وما هي السمة المميزة لروايات نهاد سيريس؟
السمة الأهم هي التنوير، فقد أردت أن أدفع قارئ الرواية إلى المعرفة والتغيير نحو الأفضل، كان علي أن أستخدم التاريخ لأجعل القارئ يعرف نفسه ويبحث عن الجديد. كما أنني رحت أغوص برواياتي في الأماكن غير المعروفة في المدينة لإلقاء الضوء عليها والتعريف بالجوانب الاجتماعية المسكوت عنها، ومن المهم الإشارة إلى أنني أردت من الناس أن يعرفوا أهمية مدينتهم ويفتخروا بها، وأن يعرف الغرباء مدينة حلب جيداً.
هل يمكننا القول بأن نهاد سيريس يلقي الضوء على التابوهات في المجتمع، كما في رواية حالة شغف؟
نعم، إذا سلمنا جدلاً أنها تابوهات، ولكنني كما قلت أردت أن أكشف الغطاء عن المستور، عن غير المعروف والمنسي وكذلك عن المسكوت عنه.
ما هو الدور الذي يمكن أن يلعبه الكاتب في إلقاء الضوء على مشاكل مجتمعنا السياسية والاجتماعية؟
للكاتب دور كبير في تقديم صورة واضحة وتحليلية لمشاكل المجتمع والسياسة، ورغم أن الكثير من الكتاب يحاولون الترويج في كتاباتهم لأفكارهم الخاصة، إلا أن ذلك يبقى ضمن فهم جزءٍ من المجتمع لهذه المشاكل. والكاتب، من خلال مقدرته على الملاحظة ومن ثم الوصف الدقيق، لديه الإمكانية لجعل القارئ يلم بكل جوانب مسألة اجتماعية ما أو سياسية ما، أو على الأقل يذكر الناس بأمور تعرضت للنسيان بسبب مرور الزمن.
هل تعرضت خلال سنوات عملك في الأدب وفي الدراما التلفزيونية، لصدام مع الرقابة أو السلطة، وهل تعرضت للضغوطات في هذا المجال؟ (بالإشارة إلى مسلسل خان الحرير 2، وما أثاره من جدل بسبب التطرق لانفصال سوريا ومصر بعد الوحدة)، فهل كان لذلك أثر على كتابات سيريس اللاحقة؟
الرقابة هي مشكلة الكتّاب المزمنة في سورية. كل أعمالي خضعت للرقيب ومقصه. أما الجزء الثاني من “خان الحرير” فلم يتوقف الأمر عند الرقابة، بل تعداها إلى ما بعد العرض، حيث أصبحت نصوصي غير مرغوب فيها أو تحتاج إلى تدقيق زائد ومن ثم الرفض. حاولوا إقناعي بأنني كاتب غير مرغوب فيه، ولولا أن مسلسل “جبران” جاء بطلب من شركة إنتاج لبنانية لما شاهد النور.
هل كان للأزمة السورية (الثورة والحرب) تأثير على كتاباتك، وما هي مواقع التأثير؟
كان لها تأثير كبير، فقد شتتتني الأحداث وأصبت بحزن بالغ بسبب الدمار الذي لحق بمدبنة حلب، ثم توقفت بعد ذلك عن الكتابة إلا ما ندر. كيف يمكن أن أكتب عن الحارة التي دمرت وأهلها الذين عانوا ثم قتلوا أو شردوا دون أن تزداد كآبتي؟
ماذا بشأن وجودك الآن في الشتات، وهل يمكن الحديث عن تشكل منهج أدبي جديد مرتبط بالشتات السوري؟
ليس بالضرورة أن يتشكل بارتباطه بالشتات، بل بالحدث نفسه، إذ نحن الآن في مرحلة إعادة تشكيل كل المناهج وأساليب العمل الأدبي والفني. منذ الآن سيقرأ القارئ بطريقة أخرى، وكذلك سيكتب الكاتب أو سيرسم الرسام بطرق مختلفة. فالطرق القديمة لم تعد تقنع المتلقين. وأعتقد بأن المبدعين سيبتكرون طرقاً جديدة للتعبير الأدبي والفني، كما حدث في أوروبا بعد كل حرب عالمية اشتعلت فيها، فقد نشأت مدارس أدبية وفنية مختلفة عن السابق، مثل هذا الأمر سيحدث عندنا. لا أحد يعلم كيف وما هي أوصاف هذه الأساليب الجديدة ولكننا في حالة مخاض.
من خلال اطلاعك على الأدب السوري خلال السنوات القليلة الماضية، هل لاحظت أثراً مشتركاً على أعمال الاُدباء السوريين الذين عاشوا تجربة الحرب ومن ثم تجربة المنفى؟
البعض يكتب عن المأساة ولكن بالطريقة القديمة نفسها، ولذلك ليس لها شعبية وتكاد تندثر قبل أن تعيش. كما قلت نحن بحاجة إلى أساليب جديدة، المطلوب تغيير أسلوبنا السردي ومواضيعنا، وشكل التعبير الذي نكتب فيه. لم يعد البطل هو نفسه كما كان في الماضي ممكناً. انظري إلى المسلسل التلفزيوني الذي ينتج الآن، كل شيء كما هو وكأن شيئاً لم يحدث ولذلك لم تعد هناك أعمال جديدة مهمة.
حصلتَ في صيف 2013 على جائزة روكرت في ألمانيا، وبناءً على زيارتك لألمانيا حينها قررت البقاء، هل أنت سعيد بخيارك بالبقاء هنا، وهل استطعت بناء علاقة ودية مع برلين حيث تقيم الآن؟
جئت إلى ألمانيا لأستلم جائزتي ثم لأعود إلى القاهرة حيث كنت أقيم، ولكن حدثت تطورات في مصر منعوا على أثرها السوريين من الدخول وكانوا يعيدونهم من المطار. سمحت لي السلطات هنا بالبقاء فأنقذوني من التشرد.
إنني أكن لألمانيا كل الحب والتقدير، وأنا سعيد بالإقامة فيها، وأشعر بأن الألمان يحترمون الناس طالما احترم الناس أنفسهم.
هل غيّر وجودك في ألمانيا من أسلوب كتاباتك ورؤيتك للحياة ؟ وهل تفكر بالكتابة عن برلين أو عن التجربة السورية في ألمانيا على سبيل المثال؟
غيرت ألمانيا رؤيتي للحياة، فقد أصبحتُ مقتنعاً أكثر بالديمقراطية كأسلوب حياة، بالإضافة إلى كونها توجهاً سياسياً، وأتمنى أن أكتب يوماً عن تجربتي فيها.
أين أنت من الجوائز والترشيحات للجوائز الأدبية المختلفة؟
مازلت أحصل على بعض منها وهذا يسعدني كثيراً، مثل تلك الجائزة التي حصلت عليها في نوفمبر الماضي في مدينة نابولي الإيطالية. وهي جائزة أدبية للكتّاب الذين هم من العالم الإسلامي. لم أكن قد سمعت بوجودها من قبل وقد تفاجأت بها، خاصةً وأنها جاءت بعد أربع سنوات من صدور ترجمة “الصمت والصخب” بالإيطالية.
مع نهاية حوارنا لابد من السؤال، هل تتصور أو تترقب عودةً قريبة إلى حلب وإلى الوطن؟ وهل تغير مفهوم الوطن بالنسبة إليك بعد هذه التجربة؟
أتمنى أن أعود يوماً إلى مدينتي التي أعشقها، ولكن ماذا حصل لحلب ياترى؟ أعرف أن الدمار قد لحق بجزء كبير منها، وأن كل أصدقائي قد رحلوا. لدي قلق بأنني سأشعر فيها بالغربة إذا ما عدت، ثم إنني لا أفكر بالعودة قبل أن تتم تسوية سياسية ما، تحفظ للعائدين كرامتهم وأمنهم.
حاورته ميساء سلامة فولف