عدنان المقداد.
الوطن تلك الروح الهائمة البعيدة التي تسكننا في غربتنا، تعانقنا في كل الدروب، تسكن فينا ولا ترحل عنا، حيثما كنا، نحمل عبير ونسيم تراب الوطن الغالي، لا عشق، ولا هوى، ولا موئل للفؤاد غير تلك الأرض البعيدة مسكن الروح والجسد وموطن الحب والعاشقين، فعندما تقف الذاكرة على عتبات الوطن وأنت في قمة الشوق والحنين إليه، تتذكر كل الأشياء التي كانت هناك، وكنت تستمتع بها، بالتأكيد لن تنسى رائحة الياسمين والهال مع القهوة المغلية كل صباح وأنت تستمتع بذلك المذاق مع صوت فيروز وتلك العصافير التي تزقزق فرحا بعد كل إشراقة صباح.
فالوطن حضن ناعم طري بطعم الكبرياء، والحنان، والعزة، وتتوالى عليك الذكريات، وجلها جميلة بجمال ذلك الوطن، فالأهل هناك والزملاء والأصدقاء، كل شيء باق، حتى الشوارع، والأزقة الضيقة، كل تلك التفاصيل.
عندما كنا نتجول، بشوارع دمشق مرورًا بسوق الحميدية لنعبر دمشق القديمة وصولا إلى باب توما، وكل تلك الحواري التي تفيض بالحنان والشوق والألفة، نزور الأزقة، ونجلس في المقاهي القديمة، ترى الجميع يتجولون هنا وهناك! ونشاهد السياح الباحثين عن تاريخ وطن زاهر مليء بالأحداث، وطن صنع الحضارة، نتجاذب معهم الحديث لندرك مدى شغفهم في وطننا وتاريخه المشرف، فنشعر بنشوة غامرة.
لاتزال الذاكرة تختزن وتبحث بين خبايا الحنين لتقف عند كل شيء جميل لطالما تمتعنا به وعشقناه، الكثير والكثير، فلكل مدينة ومنطقة سورية شهرة بشيء ما، ففي دمشق سوق الحميدية وبوظة بكداش، أما حلب ففيها المشاوي والكبب والمامونية، وحماة حلاوة الجبن وحمص الحلاوة ذات اللونيين الزهري والأبيض وتسمى (حلاوة حمصية)، والهريسة النبكية (بسبوسة)، والقائمة تطول وصولا إلى المنسف الحوراني والراحة الدرعاوية!
تلك الراحة؛ التي لطالما كانت مميزة بمذاقها الشهي، فحلاوتها بحلاوة الوطن ودفئه وحنانه ولذته وثقته وأمنه وأمانه، لا يمكننا اختزال الوطن بكل تلك المعاني والعبارات، حتى لو كانت ذات خصوصية، فالوطن ليس مجرد بقعة جغرافية. الوطن هو حيز اجتماعي وحياة، وإحساسنا بالحنين، هو شعورنا عندما نفقد الأشياء الجميلة والمألوفة والناس والأمكنة، الوطن هو الماضي والحاضر والمستقبل.