خاص أبواب
لا بدّ لمن يقرأ مشروع حازم صاغية الفكري أن يقف مذهولاً بهذه الغزارة في الإنتاج والتنوع في الطروح والمواضيع؛ فمؤلفاته تجسّد لسيرته السياسية والفكرية التي تميزت _كما وصفها صاغيّة_ بعدم الاستقرار: فمن ناصري إلى بعثي ثم ماركسي راديكالي، إلى تخليه نهايةً عن كل الأحزاب والإيديولوجيات مائلاً ميلاً لا يخلو من النقد للتيار اليساري الديمقراطي.
حازم صاغية كاتب وصحفي وناقد ومحلل سياسي من أصل لبناني، وأحد أشهر أعلام جريدة الحياة اللندنية. درس في مدارس العاصمة اللبنانية بيروت، وانتقل بعدها إلى بريطانيا حيث أكمل دراسته الجامعية. له العديد من المؤلفات الفكرية والسياسية، عُرف في الأوساط الثقافية بكتاباته المثيرة للجدل، واعتُبر واحداً من أوائل المفكرين المؤيدين لثورات الربيع العربي مع أنه دأب على نقد وتقييم وتفكيك مواطن ضعف هذه الثورات منذ سنواتها الأولى.
نرصد في هذا الحوار أهم التحولات على الساحة العربية، وما تحمله من تداعيات على مستقبل المنطقة من وجهة نظر مفكر رصين أعاد تحليل المفاهيم الصميمية في الثقافة العربية، وعمل على تأريخ الوقائع لينفذ منها إلى عمق الأزمات الراهنة.
البعث السوري .. التاريخ والمستقبل
أصدر حازم صاغية كتابه “البعث السوري: تاريخ موجز” مع انطلاقة الثورة السورية، وأرّخ فيه للمسيرة الدموية للحزب الحاكم؛ محاولاً ربط الخلفيات التاريخية لهذا الحزب بما حدث على الأرض السورية منذ اندلاع الثورة السورية في آذار/مارس 2011.
- بات الشعب السوري اليوم رهناً للتسويات والصفقات والصراعات الإقليمية والدولية وتضارب المصالح في هذه الجغرافيا المهمة. متى وكيف تنتهي الكارثة السورية التي أرّخت لها في كتابك البعث السوري من وجهة نظرك؟
أخشى ألا تنتهي الكارثة السورية إلا بالتحول إلى شكل كارثي آخر، كأنْ يُصار إلى تقاسم صريح وترسيم شبه رسمي لمناطق النفوذ القائمة اليوم. فقد بات واضحاً تماماً أن ما من قوة تستطيع وحدها أن تحسم الصراع في سوريا، أما النجاحات العسكرية التي تحققت لسلطة الأسد فحققها الإيرانيون والروس، ما يعني أنها تبقى هشة وقابلة لأن تُسحب من التداول. وبالطبع فإن العالم، لشديد الأسف والألم، مشغول عن سوريا، وعن منطقة المشرق بصفة عامة.
- وكيف ترى نجاعة قانون قيصر باعتباره قانوناً للضغط على النظام السوري والإطاحة به من سدة الحكم فيما بعد؟
أنا لست ممن يراهنون على الحصارات والمقاطعات والعزل لإسقاط نظام ما. تجارب كوبا والعراق في عهد صدام وسواهما تقول إن النظام يضعف قليلاً بنتيجة هذه السياسة لكنه يزداد تمسكاً بحياة المجتمع وبقائه. وبدوره فالمجتمع يعاني والحال هذه، من فواجع إنسانية من دون أن تزداد قدرته على الإطاحة بالنظام، سيما وأن محاولة الإطاحة به بدأت قبل تسع سنوات. إن فرض منطقة حظر جوي منذ 2013، أو حتى 2015، كانت لتكون أكثر فعالية بكثير.
- ذكرت في كتابك “البعث السوري” أن الأسد قام بمعادلة غير مسبوقة في السياسة العربية قوامها الجمع بين صداقة موسكو الشيوعية والرياض الإسلامية، إضافة إلى حمله السيد موسى الصدر إلى إصدار فتوى تنسب الطائفة العلوية إلى الشيعة الإثني عشرية. كيف نجح الأسد الأب في صياغة تلك التركيبة؟ وهل كانت تنوء بمعنى من المعاني باستمراريتها واستمراريته معها؟
ما فعله الأسد الأب ليس مرده إلى أية براعة خرافية من النوع الذي نُسب له. في السبعينيات كان المطلوب تقديم نسخة نضالية في مواجهة النسخة التي قدمها الرئيس المصري أنور السادات. هكذا تم نفخ أسطورة “بطل تشرين”.
والأهم ما حدث في الثمانينيات، بسبب كامب ديفيد التي أخرجت مصر من الساحة العربية، وتعطل كل دور للعراق بنتيجة الحرب العراقية – الإيرانية. هذا ما جعل سوريا تبدو وكأنها الممثل الأوحد لمنطقة المشرق العربي، وحمل الآخرين على التعامل مع الأسد بوصفه مالك مفاتيح الحرب والسلام.
عن الوجود الإيراني في المشرق العربي..
عام 2009 نشر حازم صاغية كتابه “نواصب وروافض: منازعات السنة والشيعة في العالم الإسلامي.” وعرض فيه لآراء مجموعة من الكتاب حول أزمة الصراع السني_ الشيعي في العالم العربي.
يمكن للقارئ أن يرصد في هذا الكتاب الكيفية التي تشكلت فيها معاقل التشيع اللبناني بعد تأثرها بالثورة الإيرانية، وصعود حزب الله إلى رأس الدولة، وقيام الحملات على الدور السوري والإيراني، وتحول الإسلام الشيعي إلى قطب بارز من أقطاب الصراع المذهبي في الشرق الأوسط: يرى صاغية اليوم أن هذا القطب، متمثلاً بحزب الله، ما يزال يلعب دوره السلبي اليوم في الأزمة الاقتصادية والمالية التي يمر بها لبنان.
- لبنان يشهد اليوم واحدة من أعتى الأزمات في تاريخه. هل ترى أن هذه الأزمة وليدة أسباب مرحلية ناتجة عن التحولات الأخيرة في المنطقة؟ أم أن هناك أسباباً أخرى؟
هناك أسباب كثيرة لهذه الأزمة بالطبع، لكن الأهم بينها سببان في رأيي: أن النظام الطائفي القائم على المحاصصة بلغ مرحلة متقدمة من التداعي والعجز عن تقديم الحد الأدنى مما يطلبه السكان، وأن سلاح حزب الله يحول دون استفادة لبنان من صداقاته التقليدية العربية والغربية القادرة على إمداد اقتصاده بمعونات لا يستغني هذا الاقتصاد عنها.
- نعرف أيضاً أن لبنان محكوم بعلاقات اقتصادية وثيقة وقديمة مع سوريا، هل تعتقد أنه قادر على تجاوز أزمته بمعزل عنها؟
لا شك في أن الأوضاع السورية الحالية تزيد في رداءة الوضع الاقتصادي في لبنان، ولا سيما بعد قانون قيصر. لهذا فإن التورط اللبناني في تلك الحرب، من خلال حزب الله، لا يفعل سوى مفاقمة الآثار السلبية، الاقتصادية وغير الاقتصادية، عليه.
والأهم هنا، أثر التدخل في سوريا على النسيج الوطني اللبناني الذي يزداد ضعفاً وهلهلة فيما اللبنانيون في أشد الحاجة إلى تسوياتٍ ترأب تصدعهم.
- بعد أشهر معدودة من اليوم سيتم رفع قانون “حظر التسلح” المفروض على إيران. هل يعني هذا عودة المواجهة الأمريكية – الإيرانية إلى الساحة الدولية بشكل مباشر؟ وكيف ستتعامل الإدارة الأمريكية مع هذا؟ وهل سيكون الشرق الأوسط ساحة لصراعات جديدة أشد ضراوة؟
واقع الحال أن هذه الحرب قائمة وأننا نعيشها بوتائر متقطعة ومنخفضة نسبياً. لكنْ إذا استمرت الأمور بالتصاعد، وخصوصاً إذا أعيد انتخاب دونالد ترامب لولاية رئاسية ثانية، فهذا يعني أن تحييد منطقتنا سيغدو ضرورةً ماسة، وبالأخص لبنان الذي جعله وجود حزب الله فيه أهم النقاط الحدودية الإيرانية – الأمريكية/الإسرائيلية.
- من وجهة نظرك، ما هو الموقف الواجب علينا اتخاذه فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية اليوم بعد كل تلك السنوات؟
يبدو أننا، وإلى ما لا نهاية، واقعون بين طرفين لا ينتج عن عملهما سوى اعتصار المنطقة وإضعافها: طرفٌ يمعن في حرمان الشعب الفلسطيني من حقوقه الوطنية، وآخر تجليات ذلك النهج احتمال ضم أراضٍ في الضفة الغربية إلى إسرائيل، وطرفٌ يمعن في استثمار الألم الفلسطيني لمصالحه الانتهازية البحتة.
وأخشى أن توازنات القوى الراهنة لا تسمح بالشيء الكثير، ما خلا البحث عن مواقع سياسية وفكرية تقع خارج الطرفين المذكورين.
الشعوب العربية نحو انهيارها المديد
كان كتاب “الانهيار المديد: الخلفية التاريخية لانتفاضات الشرق الأوسط” آخر ما نشره حازم صاغية في العام 2013؛ وقد تحدث فيه عن حاجة الثورات العربية لأنْ تعيد إنتاج مفهوم الوطنية بعد تفكك المفهوم القديم الذي حكم المشرق وأعاد إنتاج الانقسامات العصبية والطائفية فيه تحت ظل الأنظمة التي وصفها صاغية بالانحطاط؛ إلا أن صاغية عاد ليكتب في العام نفسه، في واحدة من مقالاته، أن العصبيات وأنظمتها غلبت ثوراتنا نهاية الأمر.
- تحدثت عما قامت به الثورات العربية بدءاً من الثورة السورية 2011، إلى ثورتي لبنان والعراق 2019/2020، من محاولة لإنقاذ المشرق وإعادته جسماً ينبض بالحيوية والحياة، وأضفتَ أن ما غلب نهايةً هو العصبيات وأنظمتها. كيف تفسر هذه الغلبة؟
هذه مسألة أعقد وأعمق من الأنظمة، مع أن الأنظمة فاقمتها واستثمرت فيها. فهي تتصل بالموقع المركزي الذي لا يزال يحتله نظام القرابة الموسع (الطوائف، الإثنيات…) في نسيج الحياة العربية.
وللأسف فإن مكافحة هذا العنصر البالغ الأهمية لم يحظَ بما يستحقه من اهتمام في برامج القوى والأحزاب السياسية التي صرفتها عنه دائماً أمور أخرى.
- تعتبر احتجاجات أكتوبر 2019 علامة فارقة في تاريخ العراق؛ فقد تمركزت في المناطق الشيعية (وسط العراق وجنوبه)، وأخرجت العراق من التقسيمات الطائفية والدينية إلى التفكير بهوية وطنية جامعة؛ ما دلالة كون هذه المناطق مركزاً للاحتجاجات على السلطة التي يهيمن عليها أحزاب الإسلام الشيعي؟ وما المؤشرات التي يحملها هذا الحدث على مستقبل المنطقة؟
لقد كانت المساهمة الشيعية الواسعة في الثورة العراقية سيفاً بحدين: من جهة، قالت إن الجماهير الشيعية لم تعد مستعدة، باسم التضامن الطائفي، لأن تتحمل نهب أحزاب الإسلام السياسي الشيعي وتسلطها.
لكنْ من جهة أخرى، بقي هذا التحرك العظيم ضمن النطاق الشيعي، بعيداً من مساهمة العرب السنة والأكراد. وفقط حين يحصل هذا التضافر الوطني نستطيع الحديث عن تحول عظيم باتجاه تجاوز الطائفية إلى وطنية عراقية جامعة.
- وفق ما لدينا من معطيات دكتور حازم.. كيف ترى مستقبل المنطقة العربية؟
سيء جداً لشديد الأسف.
اقرأ/ي أيضاً:
جرائم العنف الجنسي لنظام الأسد أمام القضاء: حوار مع الحقوقية والباحثة جمانة سيف
قانون قيصر لحماية المدنيين.. هل ينجح في دفع نظام الأسد وحلفائه لقبول العملية السياسية؟