لينة عطفة*
قالوا لي: ستكون الجريدة للقادمين من البحر هربًا من الموت، للظافرين بالنجاة مرارًا من الاعتقال والقتل تحت التعذيب في أقبية المخابرات، والقنص والقصف والبراميل والجوع والتفجيرات، والإعدام الميداني والبحر والاختناق في الشاحنات، وما غاب عنّي من أشكال الموت الذي يعيشه السوريون! فقلت: النصّ الأول؛ يجب أن يفتح شبّاكًا للأمل، وإن حملت الجريدة اسم “أبواب”، فأسطري لا تقوى إلّا على فتح شبّاك واحد.
اليوم افتتحوا في حارتنا مقهى (أرض القمر) بلافتة عربيّة للنرجيلة والشاي وصباح فخري (أبومحمد)، وأديل صاحبة أغنية (هالو). غمرني فرح غريب، ومنذ وصولي إلى ألمانيا لم أشهد حدثًا حرّك مشاعري سوى أن هبط في حارتنا منطاد في منتصف الصّيف.
تدفّق جيراني السوريون من كلّ حدب وصوب ليباركوا لجارنا الحلبيّ بافتتاح المقهى حاملين معهم باقات الورد وبطاقات التهنئة، وأحضر أحد المهنّئين لوحة كبيرة كُتب عليها: هذا من فضل ربّي!
الملفت هو عدد الألمان المتهافتين على النرجيلة، مؤكدٌ أنّ اللبنانيين والأتراك سبقونا لإفساد عادات الألمان الصحيّة، لكننا سنكون ملوك النرجيلة بلا منازع.
في البلاد الباردة؛ حين أصادف لافتات المقاهي والمحلّات المكتوبة باللغة العربيّة يمتلئ قلبي دفئًا كأنني مررت في حارة من حارات بلدي.
زوجي اختار السفر للدراسة، إذ انحسرت خيارات الشباب السوري بالسفر أو الموت، تبعته بعد معاناة للحصول على تصريح يسمح لي بالسفر، كنت أنتظر لقاءه فقط، بعد غياب دام لسنة وتسعة أشهر، لم أكن أفكّر في عواقب البعد عن حارتي وأهلي وعالمي البسيط، ثمّة انكسار داخليّ عميق في روحي أحاول أن أكتبه، أن أعبّر عنه، لكن لا تسعفني سوى دموعي. في السابعة والعشرين من عمري أصطدم بالغربة والفقد، وللمرّة الأولى في حياتي أكتشف أنني لا أستطيع أن أكبر، وأنّ عمري عالق في طفولة أولى لم أكتف منها ولم أنتبه لها يوم كنت تلك الطفلة، لأوّل مرّة أكتشف وطأة الكوابيس والاستيقاظ من هول صراخي.
طفلة في المنام أركض في حارات مدينتي سلمية الفارغة الزرقاء، الغيم يلامس الأرض، أصرخ لأهلي وحبيبيي، أصرخ بأسماء كلّ من عرفتهم، أصرخ ولا أجد أحدًا، كابوس لا نهائي كمشهد في مرايا متقابلة.
في البلاد الجديدة؛ لا تطاوعني الكتابة، لا أستطيع التركيز، ﻷنني أحس بعدم الأمان كأنني معلقة في العدم، خارج الهوية والزمان والمكان، وربما الكتابة في العمق تحتاج إلى يقين ما بالوجود، أدرب نفسي الآن على خلق عالم داخلي يعوضني ويشكل لي مناخًا آمنًا للكتابة.
أفكّر أننا جميعا في الغربة نعيش شكلاً واحدًا من التخبط والهواجس، شكلاً واحدًا من النظر الحذِر لشوارع البلاد الجديدة بعين الهارب لا السائح، حلمًا بعيدًا بالعودة، وكيف لا نحلم بالعودة؟ هل غادرنا بلادنا طوعًا؟! مع أننا مذ خلقنا في ظلّ ذاك الاستبداد كنّا نحلم بالسفر والغربة، كنّا نحلم بالهروب أبعد، هموم الحياة من أبسط تفاصيلها إلى أعقدها كانت ترغمنا على البحث عن فرصة للحصول على مساحة للتنفس الماديّ والمعنوي، لكن كنّا نبحث عن فرصة السفر طوعًا وعلى يقين داخلي عميق بالعودة، والآن؛ نحن مطرودون من أرضنا بالمعنى الحرفي والقسريّ، كيف لنا إذن أن نتصالح مع فكرة الأرض الجديدة ونصادقها؟!
كنت في العيد أزور قبر جدّي وجدّتي وقبور الأقارب لإلقاء التحيّة عليهم، في العيد هذا العام لم يكن ثمّة أهل ولا مقبرة نزورها لنتقاسم مع الغائبين فرحة العيد، مشيت مع زوجي، وصلنا إلى مقبرة الغرباء المسوّرة والفاخرة، وقفنا أمام بابها، ألقينا التحيّة على عجل، وأكملنا خطانا، من يلقي التحيّة على قبور الأحبّة في غيابنا؟ تذكرت قول ماركيز على لسان خوسيه أركاديو بوينديا في مئة عام من العزلة: “لا ينتسب الإنسان إلى أرض لا موتى له تحت ترابها”.
ولأننا في الوطن كنّا نمتلك ثلاث جرائد تابعة للنظام لا يوجد بها كلّها صفحة واحدة صادقة عدا صفحة الوفيّات، قلت: جريدتا الطفلة أبواب كلّ صفحاتها صادقة، لكنّنا لا نمتلك صفحة للوفيّات بعد، ترى هل سيكون لنا موتى في هذه البلاد ليخلقوا لنا ذاكرة للمكان ونسبًا وهويّة؟ أم أننا سنعود جميعنا إلى بلادنا أحياء؟!
*شاعرة سورية