رند صبّاغ | صحافية سورية مقيمة في برلين
لم تلقَ وسائل التواصل الاجتماعي رواجًا حقيقيًا في سوريا قبل الربيع العربي، ليغدو بعدها الاشتراك في فيسبوك خصوصًا ضرورة لمواكبة الأحداث، والتواصل مع الأشخاص المختلفين بغرض التنسيق والتشبيك وغيره. ولا شكّ في أن فيسبووك فتح أفقًا جديدًا للتعبير، خالقًا فضاءاتٍ افتراضية توازي الفضاء العام، وتحتل مكانه أحيانًا، بالأخصّ مع اشتداد وزر الحرب وما تبعها من شتاتٍ سوري، ليسمح بخلق مساحةٍ سوريةٍ بديلة ازدادت أهميتها وقوتها بغياب المساحة الفعلية الوطن.
لكن الفضاء الافتراضي المفتوح وإن شكل للمرأة اختراقًا لم يسبق لها تحقيقه بهذا الوضوح، إلا أنه زاد من إمكانية تعرضها للعنف الإلكتروني، فتشير دراسة للأمم المتحدة إلى أن 65% من النساء يعانين من الأذى عن طريق الفضاء الافتراضي، لكن الأرقام الحقيقية تبقى طي الكتمان بوجود أطر أبوية، تمنع النساء من مشاركة مثل هذه المعلومات.
كما تتعرض الناشطات والعاملات في الشأن العام على وجه الخصوص، لحملاتٍ تمييزية تستخدم التشهير المبني على النوع الاجتماعي وتحييد القضايا الرئيسية.
ونشرت صحيفة الغارديان البريطانية دراسة عام 2015 تتحدث عن زيادة الميزوجينية (كراهية النساء) في الفضاء الإلكتروني، حيث تنشر كل سنة في بريطانيا عشرات آلاف التغريدات التي تحتوي على توصيفات تمتهن النساء مثل “عاهرات”.
ولكن هل يصح لنا النظر إلى الجانب السلبي فقط؟ ألم تفتح وسائل التواصل الاجتماعي بابًا من الحريات التي لم تكن المرأة السورية قد عرفتها من قبل؟ ألم يستطع هذا الفضاء الافتراضي خلق هوامش أكبر للتوعية وإيصال أصوات وقضايا لم يكن المجتمع يعي وجودها؟
رشا عبّاس: تداخل الشخصي مع العام على مواقع التواصل أدى إلى تلاشي مساحة الحرية الشخصية
للإجابة على هذه التساؤلات التقت “أبواب” بعدد من النساء، فاعتبرت القاصة والصحافية السورية رشا عباس أنه “من الصعب تبني رأيٍ واضح حيال الموضوع، وذلك بسبب تنوع صور المشاركة في هذه المواقع”، وتطرح على سبيل المثال: “في الوقت الذي باتت كثيرات تعلنّ عن أنفسهن بحرية، هناك ارتدادٌ من قبل أخريات مقارنة بمعايير كانت سائدة من قبل. أذكر على سبيل المثال أنّ حريّة النشر هذه والتعبير عن الذات دون خوفٍ من الانتقاد كانت في أوجها لدى انتشار مواقع التواصل قبل عشرة أعوام من الآن مثلاً، ولكنّها انحسرت بعد ذلك عوضًا عن أن تتقدّم”، وتعتبر عباس أن الأسباب المحتملة لذلك هي: “تحوّل مواقع التواصل الاجتماعي في الحالة السورية إلى منّصات بديلة للتعبير عن الآراء والنقاش ونقل الأخبار ريثما كانت الوسائل والهيئات الإعلامية في طور التشكّل، إذ فرض ذلك مزاجًا عامًا يوحي بأنّ الاستخدام الأمثل للصفحات الشخصية هو لأغراض الإعلام أو تبني مواقف من الأحداث الجارية على نحوٍ رسمي، وبهذا تداخل ما هو شخصي مع ما هو عام مما أدى لتلاشي مساحة الحريّة الشخصية والتعبير الحرّ عن الذات، وبات المرء يحسب حسابًا أكثر لما ينشره من مضمون على هذه المواقع، وهذا التقييد أثر على النساء أكثر بطبيعة الحال كونّهن الأكثر عرضة للاستهداف بناء على معطيات شخصية، من قبل خصومٍ في الآراء والتوجهات السياسية”.
يمنى الدمشقي: بعض الصفحات تعطي صورة سيئة عن المرأة وتنصب نفسها ناطقة باسمها
في حين رأت يمنى الدمشقي وهي صحافية سورية مقيمة في ألمانيا، أن الأمر انعكس إيجابيًا على فئة من الفتيات اللواتي كن أسيراتٍ للقيود الاجتماعية التي تحد من تواصلهن مع الآخرين، فصارت هذه الوسائل “وسيلة تساهم في ظهور شخصية المرأة، وأعرف كثيرًا من السيدات اللواتي أصبحن أكثر قوة من خلال فيسبوك، وصرن يمتلكن الجرأة للتواصل مع الرجال وإن كان افتراضيا، ما أثر بشكل جيد على حياتهن العملية”، وتؤكد أنها بدورها استفادت من هذا الفضاء “لقد خلق لي فيسبوك مساحة كبيرة لأسدي آرائي الشخصية، ولم أعد أخاف من الأقاويل، فما يهمني هو التعبير عن قناعاتي فقط”.
وتؤكد الدمشقي على أهمية فيسبوك في مجال التوعية في حقوق المرأة، لكنها تعتبر بأن هناك بعض الصفحات “التي تعطي صورة سيئة عن المرأة وتنصب نفسها ناطقةً باسمها”، وترى بأن إحدى الإشكاليات تكمن في أنواع التنميط التي تؤطر النساء في صفحات التواصل الاجتماعي المختصة بالمرأة والتي تحصد متابعاتٍ كثيفة، ما تراه “تحجيمًا لها ولدورها”، أما عن الابتزاز فترى بأنه ينتشر بشكل أوضح عند بحث النساء عن العمل “فتراهن يتعرضن للكثير من المضايقات من خلال استغلال حاجتهن المادية”.
ميليا عيدموني: تواجه النساء على مواقع التواصل خطاب كراهية، ابتزازًا، قمعًا ورقابةً
من جانبها، ترى ميليا عيدموني وهي عضو مؤسس في شبكة الصحفيات السوريات أن: “هذه المواقع ساهمت في خلق مساحة للمرأة للتعبير، لكنها فتحت الباب على المرأة لتكون هدفًا سهلاً للهجوم سواءً على شخصها أو أفكارها”، وتضيف “تواجه النساء في مواقع التواصل الاجتماعي تحديات كثيرة منها خطاب الكراهية، القمع والرقابة الذاتية، بالإضافة إلى رقابة المجتمع والأهل، وما يندرج تحت مسمى الممارسات السلطوية، حيث اخترق الأمن السوري عند اعتقال أو تهديد الناشطات حساباتهن الشخصية، ما تأتى عنه المزيد من القمع الأسري للفتاة للتوقف عن التعبير. كما تتناول الابتزاز الالكتروني، فيمكن لأي شخص إطلاق شائعات بحق المرأة أو التهجم عليها”، وتضيف شارحةً: “هذه الشائعات تنتشر بسرعة، ليتم دمج الحيز الشخصي بالعام، وتأتي الردود ضمن إطار التشهير بها كامرأة”. وتطرح عددًا من الأمثلة كالتشهير بالمعارضة السورية سهير أتاسي، أو توصيف اللجنة الاستشارية النسائية بـ “نساء ديمستورا”، وغيرها، وترى بأن هذا النوع من التشهير “ساهم بشكل أساسي بالحد من حرية المرأة ونشاطها على مواقع التواصل الاجتماعي، بالأخص مع غياب الضابطة القانونية التي تحمي المرأة من هذه الجرائم، حيث نرى اليوم العديد من الناشطات يفضلن عدم مشاركة مواقفهن وآرائهن حول قضية معينة نتيجة الخوف من ردود الفعل”.
لكن عيدموني لا تنفي إيجابيات هذه الوسائل في ظل الظروف الراهنة: “لقد استطاعت المنظمات من خلالها استهداف عدد أكبر من المستفيدين/ات، خاصة أن الشريحة العمرية التي تستخدمها متنوعة وتختلف من موقع إلى آخر، وعلى هذا الأساس تم استخدامها كأداة لرفع الوعي والتعريف بحقوق النساء، بالإضافة لما توفره المجموعات على الفيسبوك من أرضية للنقاشات، والتفكير بآليات للضغط والمناصرة على صناع القرار” وتؤكد على اعتماد شبكة الصحفيات السوريات لمواقع التواصل الاجتماعي بشكلٍ كبير في إطلاق حملات التوعية، مثل حملة يوم المرأة، اليوم العالمي لحرية الصحافة وغيرها.
الحجاب وربطه بالشرف والأخلاق
كما التقينا برولا وهي سوريا مقيمة في تركيا، والتي قامت بخلع حجابها، لكن إعلانها للأمر على فيسبوك كان حرجًا أكثر من الواقع، وتقول: “كنت مترددةً لوقتٍ طويل، وحافظت على صورتي الشخصية كمحجبة حتى بعد خلعي للحجاب، ولكن حصلت مناسبة عائلية والتقطت صورة وقررت مشاركتها، لأتفاجأ بالحملة التي شنت ضدي، فلم تقف عند الشتائم في شرفي، بل تعدتها لكتابة منشورات عني وعن أخلاقي”.
د. مية الرحبي: العمل في الشأن النسوي كالمشي في حقل الألغام
التقت “أبواب” أيضًا بالدكتورة ميّة الرحبي وهي مناضلة قديمة في حقوق المرأة والشؤون النسوية، ولديها عدة مؤلفات في هذا الصدد، فميزت بين الصعيد العام والصعيد الشخصي بالنسبة للنساء في مواقع التواصل الاجتماعي، وقالت: “على الصعيد العام كان لهذه المواقع دورًا إيجابيًا، فعلى سبيل المثال، منذ سنوات لم يكن كثر يعلمون باليوم العالمي للمرأة، في حين نرى أن فيسبوك ساهم بنشر هذه الثقافة، كما ساهم في ترويج كثير من القضايا والأفكار النسوية، والتي لم تكن قادرةً على الوصول إلى نفس الشرائح من قبل”. أما على الصعيد الشخصي تؤكد د.الرحبي أنه: “على السيدة توخي الحذر، ففيسبوك الذي كان وسيلة لربط الأصدقاء ونشر الحياة العادية، تحول لوسيلة ننشر خلالها أفكارنا، وفي حال اختارت السيدة أن تفتح صفحتها أمام أناسٍ لا تعرفهم، فعليها اتسام الحذر، والأفضل أن تشارك أفكارها دون مشاعرها”، وتؤكد أن اتخاذ خطواتٍ فردية في عرض قضية سيدة وتحويلها لقضية رأي عام “يحول صاحبة القضية لضحية أكثر من قبل”، لذلك تنصح باستخدام هذه الوسائل بهدف التغيير التدريجي، واصفة العمل في الشأن النسوي “كالمشي في حقل ألغام، فقضيتنا ليست مقبولة اجتماعيًا، ولذلك علينا اختيار اللحظة المناسبة للمواجهة”، مضيفةً أن استخدام فيسبوك في صدد حقوق المرأة “يجب أن يكون حذرًا وموجهًا لجميع فئات المجتمع، وليس لهدف شخصي”.
في النهاية لا يحمل الواقع الافتراضي عصًا سحريةً يمكنها تغيير أنماط اجتماعية مغرقة في القدم، لكنه يفتح أبوابًا جديدة من الممكن أن توظفها النساء للمساهمة في انتزاع حريتهن وفرض وجودهن، وإن بقيت الأثمان باهظة دومًا.