كفاح علي ديب
لثلاثة أيّأم، نزلت في ضيافة عائلة ألمانيّة، جدّ وجدّة، يعيشان في بيت كبير يشبه ما نسمّيه في سورية، بيت العائلة.
كانا يقيمان وحيديْن، بعد أن أصبح لكلّ من ابنتيهما عائلتها الخاصّة، تزوراهما برفقة الصهريْن والأحفاد، أحيانًا، في نهايات الأسابيع أو في الأعياد.
سررت حين أروني صور العائلة، وعندما جاءت الجدّة إليّ حاملة الكاميرا الخاصة بها والتقطت لي بعض الصور، فكّرت لابدّ أنّها فعلت ذلك مع ابنتيها، ولا بأس من أن ترى فيّ ابنة جديدة! دغدغت هذه الفكرة قلبي وأنا أتجوّل في حديقة منزلهما الجميلة، وقد بدا جليًّا أنّها تستهلك معظم وقتيهما.
بمحاذاة الدرب الصغير الذي يصل باب الحديقة بباب البيت، امتدّ حائط واطئ بُنِيَ من حجارة صغيرة بنّية اللون، رُصّتْ بعناية فائقة. تلك الحجارة امتدّت في ذاكرتي جسرًا يصلُ بين حديقتهما وحديقة بيت جدي البعيد.
كنت طفلة، أراقب جدّتي وهي تخيط، من قطع قماش فساتينها المطرّزة العتيقة المتنوّعة، طراريح صغيرة، تشكّلها مثل لوحات ملوّنة جميلة، تضعها على كراسي القشّ.
أيّام العطلة، كانت الكراسي تحتشد أمام البيت، تحت شجرة التوت الوارفة، حيث كانت طاولة فطور واحدة تجمع العائلة؛ الجدّ والجدّة، الأخوال والخالات والأحفاد. كان ذلك طقسًا مقدّسًا، فيوم العطلة هو يوم العائلة.
لطالما أحببت الجلوس على الأرض، أسند رأسي على الكرسيّ، لأستنشق رائحة صابون الغار الذي كانت جدّتي تغسل به الغسيل. تلك الرائحة كانت تغلغل بثبات في الطراريح، وتنداح بتؤدة في أنفي.
ماتت جدتي، فاهترأت الطراريح. أحدٌ، لم يعد يلبس كفساتينها الملوّنة، ولا يخيط طراريح للكراسي، أو يستعمل صابون الغار في الغسيل!
ربما لو استمرت الجدّات في خياطة أغطية للكراسي، لما تحوّل شاغلوها إلى قتلة!
ثمّ توفي جدّي. وأصبح الأخوال والخالات بدورهم أجدادًا وجدّات، وشبّ الأحفاد. لكنّ الحرب بعثرتهم. منهم من قضى نحبه، ومنهم من سُجِنَ، أو فرّ خارج البلاد، ليتحوّل إلى لاجئٍ، مثلي، تّدوِّخُه شتّى المشاغل والهواجس، يبحث عن سبيل للحياة، عن عائلة جديدة، وأمان وسلام، تحت وطأة ثقل قلقه الدائم على أحبّة خلّفهم في أوار الحرب، بعيدًا هناك. فهنا تستمرّ الحياة غير معنيّة ولا آبهة بما يحدث هناك!