خاص أبواب – ديورن
شارك الفنان التشكيلي السوري عبد الرزاق شبلوط في المعرض المقام في قلعة “شلوس بورغاو” بمدينة ديورن الألمانية، ضمن فعالية “الأيام الثقافية”، التي تقام سنويًا في شهر شباط منذ سبعة عشر عامًا، برعاية إدارة المدينة و”نادي ليونز” الاجتماعي، وفيها قدّم الفنان السوري بعضًا من لوحاته الحديثة، المفرطة في الواقعية، إلى جانب عددٍ من أعماله القديمة بأسلوبٍ انطباعي مميز، يعرضها لأول مرة.
وللتعرّف أكثر على الفعالية، التقت “أبواب” بالسيد شتيفان كنودل أحد المنظمين، وهو المسؤول الإداري لدار هاينريش بول في ديورن والعضو في نادي ليونز الراعي لهذه الفعاليات.
يقول السيد كنودل: “افتتحت الفعاليات تحت عنوان فنانون من ديورن. عادة يُدعى خمسة فنانين ألمان (في فن الرسم، النحت، التصوير الفوتوغرافي..) ممن ولدوا في المدينة أو أمضوا حياتهم فيها، للدراسة أو العمل ثم انطلقوا إلى أماكن أخرى في العالم، وها هم يعودون إليها ليعرضوا أعمالهم الفنية. لكنّ ما يجعل العرض هذا العام مختلفًا هو أن الفنانين المشاركين ينتمون إلى جنسياتٍ غير ألمانية لكنهم أمضوا سنواتٍ من حياتهم في ألمانيا وهم لذلك يعكسون اختلافاتٍ ثقافيةٍ وفنيةٍ جديرةٍ بالاهتمام”.
بالنسبة للسيد كنودل لا يعني هذا التغيير أبدًا تغيير العنوان الأساسي للمعرض (فنانون من ديورن)، بل يكرّس احتفاء المدينة بالفنانين الذين جاؤوها من بلدانٍ أخرى واختاروها موطنًا لهم، حيث يعيشون ويعملون ويبدعون، واعترافٌ بأن هؤلاء الفنانين بتنوع قومياتهم وثقافاتهم ذوو أهمية كبيرة للمدينة، من حيث إغناء ودعم الحركة الفنية في ديورن، “نحن نحتاج لهذا الخليط حيث الفنانون مرتبطون بشكل أو بآخر بمدينتنا” يقول كنودل.
وعن مشاركة الفنان السوري عبد الرزاق شبلوط، أشار كنودل إلى أن معرفته بشبلوط تعود إلى الفترة التي حل فيها ضيفاً على دار “هاينريش بول”، حيث أقام وعمل وقدم لوحاتٍ فنيةٍ “مذهلة بتقنيتها العالية وجمالها، وهو ما عبر عنه أغلب ضيوف المؤسسة من فنانين وأكاديميين” وفق تعبيره. وعن أعمال شبلوط المعروضة في الأيام الثقافية يقول: “تركت تأثيرًا جميلاً على جمهور ديورن ورواد القلعة، وبصفتي أحد المنظمين فإنني على تماسٍ مباشرٍ بآراء الزوار الذين عبّر كثيرٌ منهم عن أن العرض هذا العام متفوقٌ جدًا على المعارض المقامة في السنوات السابقة، وهذا ما أكده أيضًا المواظبون على الحضور عامًا بعد عام”.
ويعزو كنودل زيادة الإقبال هذا العام إلى السوية العالية للأعمال المقدمة، إضافةً إلى أن المواطنين هنا يقدرون عاليًا فكرة أن الغرباء القادمين من أصقاع الأرض جلبوا فنونهم وثقافتهم وقدموها للناس هنا، وهذا ما يبدو جليًا في تنوع الأعمال المعروضة سواء من حيث الموضوع أو الأسلوب، “نحن فخورون جدًا بأننا نشارك في تقديم وتسليط الضوء على هذه الأعمال والفنانين ونعتبرهم أبناء مدينتنا”. وإضافةً إلى عبد الرزاق شارك أربعة فنانين مقيمين منذ سنواتٍ طويلةٍ في المدينة وهم: بيا كابا رسامة فنلندية الأصل، زبيغينييف ميك من بولندا، أندري كلير مصور من أصول كازاخستانية، وأمير موستوفيان تاموريس وهو نحات إيراني الجنسية.
وردًّا على سؤال حول إمكانية تكرار التجربة في السنوات القادمة أو نقلها إلى مدنٍ أخرى، أكد كنودل على أن اختيار الفنانين المشاركين بالعموم يجب أن يتم بغض النظر عن جنسياتهم وإنما حسب قيمة أعمالهم الفنية، فالفن دومًا خارج الحدود والجنسيات. وأضاف أن مشاركة الفنانين الأجانب في العروض والفعاليات الفنية والثقافية المحلية، تترك أثرًا متبادلاً بين المجتمع المحلي هنا -والذي قد يتأثر سلبًا بالميديا المعادية للأجانب- وبين المهاجرين واللاجئين الوافدين حديثًا. يقول: “الألماني المتخوف سيرى بأن الأعمال الفنية المعروضة تطرح ثقافةً فنيةً عالية المستوى ومتمايزة، بعيدةً كل البعد عن التنميط الذي يروج له المتعصبون، وفي المقابل سيشعر بأن مساهمة المهاجر بفنه وأدبه وتاريخه الحضاري هي بمثابة رد الجميل للبلد التي استقبلته، ناهيك عن أن الأجنبي مهما كانت جنسيته وسبب وصوله إلى ألمانيا سيكون فخورًا بالحضور الفني الهام لأخوانه”.
في هذا السياق أثارت “أبواب” موضوع وجود مخيمين للاجئين في مدينة ديورن، وتساءلت عن الدور الذي تقوم به المدينة فيما يخص تقريب اللاجئين من الأجواء الفنية والثقافية العامة، فأجاب كنودل: “المدينة في طريقها لتحقيق ذلك. لقد بدأنا بالموسيقى كثقافة عالمية شديدة التأثير، من خلال تقديم حفلاتٍ موسيقية كلاسيكية وغنائية، يعمل عليها أطفالٌ من المدرسة الموسيقية إذ يقومون بالعزف في المخيمين وهناك تقبل واسع لذلك”، كما نوّه إلى وجود خطةٍ مستقبلية لدعوة الفنانين السوريين المقيمين في أماكن قريبة أو المستضافين في دار “هاينريش بول” مثلاً لتقديم قراءاتٍ من أعمالهم الأدبية أو الشعرية في المخيم باعتبارهم فنانين سوريين وبعضهم لاجئون أيضًا.
“أبواب” التقت الفنان السوري عبد الرزاق شبلوط، المشارك في هذه الفعالية، حيث تحدّث عن مشاركته هذه، وكذلك عن الفترة الغنية فنيًا التي أمضاها في ألمانيا. يقول شبلوط: “أسعدتني للغاية المشاركة في الأيام الثقافية في ديورن، ليس فقط لأنها مدخل لتقديم أعمالي للجمهور الألماني، في حدثٍ شديد الخصوصية والمحلية كهذا، وإنما أيضًا لأن دعوتي جاءت بناءً على قرار إدارة المدينة والمنظمين اعتباري واحدًا من الوجوه الفنية التي تمثل مدينة ديورن، رغم قصر الفترة الزمنية التي أمضيتها فيها”.
يقيم عبد الرزاق في ديورن منذ آواخر عام 2014 حين استضافته مؤسسة “هاينريش بول” التي تستقبل سنويًا فنانين تشكليين وأدباء وشعراء من جنسياتٍ وثقافاتٍ مختلفة، وأقام أول معرضٍ له في ألمانيا في شهر آب من العام الماضي، عرض فيه ثلاث عشرة لوحة زيتية من أعماله المفرطة في الواقعية، وهي مدرسة يعتبر عبد الرزاق من أهم روادها في الفن التشكيلي العربي، إضافة إلى اشتغاله على أساليب أخرى.
يقول: “لقد قدمت لي دار هاينريش بول فرصةً ثمينةً للاستقرار، وجوًا ملائمًا للتفرغ للعمل الفني، بحريةٍ كاملة متنقلاً بين شغفي الحديث بالواقعية المفرطة كمشروع شخصي، وبين عشقي الدائم للانطباعية بشكلٍ عام. وما يميز مشاركتي في هذه الفعالية عن معرضي الأول في ديورن هو أنها أتاحت لي حريةً أكبر في اختيار الأعمال المقدمة، فإضافةً إلى لوحات الواقعية المفرطة، عرضت بعضًا من اللوحات الانطباعية التي أحضرتها معي من سوريا”.
يهتم شبلّوط بموضوع البورتريه (اللوحة الشخصية)، وقد عرض عدّة بورتريهات في معرضه الحالي. يتحدث عن خصوصية البورتريه لديه قائلاً: “بالنسبة لي لا يتعلق البورتريه برسم شخصياتٍ بعينها بقدر ما هو مسٌ لحقيقة الوجه البشريّ كمعبرٍ أول بكل ما فيه من مشاعر وحالاتٍ إنسانية تختزنها العيون والتجاعيد وحركة الحواجب وأدق الملامح التي تسم تجربة الشخص الذي أرسمه وتاريخه، فكل ملمح ينقل حالة شعورية مختلفة، وهنا لا أضطر لتحميل اللوحة مشاعري أنا، وإنما يمنحني الوجه بحد ذاته كتلته الشخصية من الأحاسيس، وبالعموم فإن البورتريه هو فن مستقل نوعًا ما يمتد عميقًا في التاريخ التشكيلي”.
أما عن تجربته الحديثة نسبيًا في الواقعية المفرطة والتي بدأها منذ ثلاث سنوات تقريبًا، فينظر لها كأثرٍ مباشرٍ للثورة السورية على حياته الفنية. “الثورة السورية خلقت عندي ثورةً شخصية متعلقة بالرؤية العامة للفن، لا سيما في سوريا، جعلتني أرفض الأحكام والأطر السابقة التي تماهي الواقعية المفرطة بالصورة الفوتوغرافية كنوع من الاستخفاف، وتتهم هذا الأسلوب بالبعد عن الحداثة وحرية التعبير” يقول عبد الرزاق، ويضيف: “برأيي هذا تقييمٌ مغلوط لأنه يرتكز أساسًا على فهمٍ خاطئٍ للحداثة وحرية العمل الفني الخارج عن الأطر لدرجةٍ جعلته بعيدًا أيضًا عن أبجديات الفن ومستهترًا بجماليات وقواعد الفن الكلاسيكي”. وهو يعتقد أن هذا عائدٌ بالدرجة الأولى إلى حالة الاستسهال المتزايد في الطرح التشكيلي لدى الأجيال الجديدة، والفهم الخاطئ لمسألة التحرر من الضوابط الذي لا يعدو حقيقةً في كثير من الأحيان أن يكون تحطيمًا لأبسط القواعد دون أي طرحٍ إبداعيٍ جديد. “ربما ساعد في ذلك استسلام المتلقي لجهله بتقاليد الفن التشكيلي وتطوره، وأشير هنا إلى أنني صادفت تجارب فنية حديثة غاية في الإبداع استطعت تذوق جمالية الكثير منها وحساسيتها، ولكنني كنت أرتد بعنف عند رؤية مقدار الاستسهال المتعمد لدى الكثيرين، ولست هنا بصدد شرح الدراسات النقدية المختلفة التي تناولت هذا الموضوع، ولكنني وبغض النظر عن الآراء المسبقة والتقييمات المتكررة لأهمية الواقعية المفرطة قررت المضي في شغفي إلى الحدود القصوى”.
أما عن أصداء المعرض فشرح الفنان السوري ذلك بقوله: “من خلال انطباعي الشخصي ورؤيتي لمجريات الفعالية بالعموم ومن خلال الآراء التي وصلتني من الحضور شخصيًا أو من المنظمين أو عبر الإعلام هنا، يمكنني القول إن المعرض ترك أصداء جيدة جدًا لدى الجمهور الألماني، لاسيما أن الأعمال المعروضة تعكس خلفية ثقافية وفنية مختلفة تمامًا عما اعتاده رواد هذه الفعالية في السنوات السابقة، وهنا أشير إلى زملائي المشاركين أيضًا بأعمال أخرى متميزة”. لعلّ ما يؤكّد كلام عبد الرزاق تمديد فترة العرض لأسبوعين وكذلك الإقبال على اقتناء اللوحات. ويعلّق شبلوط: “أعتقد أن أي فنانٍ سيشعر بالرضى لرؤية الإقبال على اقتناء لوحاته. هذا لا يتعلق فقط بالمردود المالي للعمل المنجز وإنما أيضًا بالرضى تجاه تقدير وتذوق الحضور لجمالية الفن المعروض وهو ما يشكل حافزا لي ولأي فنان”.
وعن مشاريعه الحالية والمستقبلية أشار عبد الرزاق إلى تزامن هذا المعرض مع مشاركة أخرى له في هولندا حيث يعرض ست لوحات من الواقعية المفرطة في غاليري “غياردينو”، ضمن فعاليات فنانون في فالكنبورغ (KIV). كما نال منحة فنية جديدة في ألمانيا، حيث دعي إلى بيت الفن الأوروبي في ميونخ، والذي يستضيف عادةً فنانين من أوروبا، بينما يشارك هذا العام فنانون من جنسياتٍ غير أوروبية يقيمون في أوروبا لتسليط الضوء على أهمية اختلاف التجارب الفنية والثقافية، وما تتركه من أثر على تطور الحركة الفنية الأوروبية. وختم الفنان عبد الرزاق شبلوط حديثه مع “أبواب” بالقول: “أشعر دومًا بسعادة مضاعفة حين أعرف عن نفسي في معارض ولقاءاتٍ كهذه كفنانٍ سوري، وأعتز بحفاوة المتلقي حين يعرف جنسيتي”.