حوار سعاد عباس
بدأت أبواب سلسلة لقاءات مع مهاجرين في أوروبا من جنسياتٍ عربية مختلفة، بعضهم عاشوا هنا منذ عشرات السنين وبعضهم وصل مع موجة اللجوء الجديدة، كم تختلف القصص وكم تتشابه، وهل يتشاركون نفس الهواجس ولديهم نفس الاهتمامات؟
تتطرق أبواب إلى الموضوعات التي تكررت كثيراً في السنوات الثلاث الأخيرة في الصحف ووسائل الإعلام ولكن هذه المرة فقط على لسان أصحابها. كل شخصٍ من هؤلاء يروي تجربته البسيطة مع كلماتٍ رنانة مثل العنصرية، الاندماج، تكتل المهاجرين وانعزالهم عن المجتمع، العودة إلى وطنهم أو التوحد مع الأوطان الجديدة.. وتتغير المسميات، المهاجرون، اللاجئون، القادمون الجدد والمهاجرون القدماء.
في هذا العدد: طارق من المغرب، هادية من مصر، محمد من سوريا
طارق: لو أردت البقاء في وسط مغربي لما سافرت..
كان طارق يعمل في شركة عالمية لتأجير السيارات بمنصب جيد، وكانت أوروبا بالنسبة له مجرد مكان للسياحة، لكنه فقد عمله وتنقل من عملٍ لآخر، في النهاية اضطر لاتخاذ قرار السفر إلى بلجيكا للعمل فيها. يعتبر طارق أن الفرق بينها وبين المغرب شاسع، لأنها بلاد تهتم بالإنسان بالدرجة الأولى، فيما يأتي الإنسان في بلادنا في مراتب ثانية وعاشرة، العناية بالإنسان بكل المجالات لاسيما في مجال الصحة هي الأهم في أوروبا في حين حتى التأمين الصحي مثلاً في بلادنا العربية ضعيف. وكل شيء في كل المجالات مرتبط دوماً بشخص واحد هو “المسؤول” الآمر الناهي وهو صاحب القرار، في حين لا يستطيع الآخرون تجاوزه لأسباب أهمهها الخوف.
يقول أن المهاجرين الأوائل الذين وصلوا أوروبا منذ عشرين أو ثلاثين سنة ربما ما كانوا بحاجة للسفر، لم يكونوا هاربين من حرب مثل السوريين الآن مثلاً. وإنما جاؤوا عن طيب خاطر كان لديهم الوقت الكافي للتفكير والاختيار واتخاذ القرار الأنسب، فجاؤوا بقرار مدروس، يعرفون ما الذي سيفعلونه كدراسة أو عمل.
بالنسبة إليه كان السبب المباشر لمجيئه إلى أوروبا هو السبب المادي والإنساني. فهو يستطيع أن يحقق في بلجيكا خلال سنة ما سيحتاج خمس سنوات لتحقيقه في بلاده. أطفاله أيضاً أولوية، فهو يريد لهم حياةً تؤمنها أوروبا في الدراسة والاحترام والضمان وغيرها مما يصعب الحصول عليه في المغرب. وهو يتمنى فعلاً أن تصبح بلجيكا بلداً له ولأبنائه، في حين سيطغى على علاقته ببلده الحنين والوقوف على الأطلال.
الجالية المغربية من أقدم وأكبر الجاليات في بلجيكا ويعتقد طارق أن تأقلمهم يتفاوت بحسب الأجيال، فهو لا يظن أن الجيل الأول تمكن من التأقلم كما يجب، بل حافظ على هويته وعاداته كما هي، بينما الجيل الثاني ظل تائهاً نوعاً ما، ما بين الحياة الجديدة والتشبت بالهوية المغربية، ولكن ابتداءاً من الجيل الثالث أصبح الشباب والاطفال أكثر انسجاماً مع المجتمع البلجيكي. ويظن أن المحيط الذي كان يعيش فيه الفرد قبل قدومه إلى بلجيكا أو أي بلد أوربي آخر له تأثير كبير على مدى اندماجه وتأقلمه، كالمجتمع المنغلق أو الريفي مثلاً، وأحياناً المستوى الدراسي الضعيف أو المنعدم وكبر السن نوعاً ما، كل هذا يجعل فرص التأقلم ضعيفة جداً. بأية حال فإن الاندماج يعني رغبة الإنسان في التأقلم مع محيطه وعكسها هو التقوقع، والخاسر الوحيد هو من يرفض الانسجام مع الأجواء الجديدة لأن بلجيكا بحسب قوله “لن تخسر الشيء الكثير بعدم اندماجه بل سيكون هو الخاسر الاكبر”
ومن خلال علاقاته مع المعارف الأصدقاء الذين أمضوا سنوات طويلة في أوروبا، يرى طارق أن ما يؤرق بعض المغاربة هو الانصهار التام لأبنائهم في المجتمع الأوروبي، وبالتالي انسلاخهم عن العادات و التقاليد والهوية المغربية. أما بالنسبة إليه فهو لا يعيش هذا القلق، وليست لديه الرغبة في الحياة ضمن أجواء المغرب المنغلقة سواء في بلجيكا أو غيرها، بل لا يتردد في الابتعاد عنهم: “فلو أردت البقاء في وسط مغربي ما كنت لآتي إلى هنا”.
ليس لدى طارق أي قلق من المخاوف الشائعة من صعود اليمين أو التطرف في بلجيكا أو في أوروبا بالعموم، فهو يدرك تماماً أنه يعيش وسط الشعب وليس الحكومات، و”المهم هنا أن تكون محترماً لتكسب احترام الآخرين”.
هادية: الجدل حول الاندماج هو مجرد ادعاءاتٍ سياسية لا محل لها على الأرض
جاءت هادية من مصر إلى ألمانيا منذ أحد عشر عاماً وكانت تبلغ حينها الرابعة والعشرين من العمر، مع زوجها الألماني حيث التقيا في مصر أثناء عمله هناك، أنجبت طفلها الأول في ألمانيا، وعاشت فيها بوضع مادي سيء جداً بعد أن اضطر زوجها لترك عمله من أجل متابعة دراسته، وجدت نفسها فجأةً مع طفلها في بلد غريب بلا لغة ولا أحد يدعمها مالياً، فاضطرت للقبول بأي عمل من التنظيف إلى البيع في المحلات ثم بدأت تدخر المال بقسوة حتى على نفسها، لكي تتمكن من إعالة زوجها الطالب وطفلها. وتقول أن صدمتها الأولى كانت في رفض عائلة الزوج تقديم أي عونٍ مادي لها ولزوجها، وهو ما كانت تعتقده مستحيلاً في مصر، لكنها اكتشفت لاحقاً أن الأوضاع الاقتصادية ما عادت تتيح حتى للعائلات أن تساعد بعضها.
تعلمت اللغة وعملت وحصلت على الجنسية بعد تعبٍ طويل، وهي الآن تعتبر نفسها ألمانيةً من ناحية اندماجها في المجتمع ولكن بقدر ما هي مصرية، فهي محاطةٌ بأصدقاء وصديقات من الوطن وعلمت ابنها العربية، وتسافر معه باستمرار إلى مصر. لا تفكر كثيراً بقصص الاندماج والوطن والحنين والانتماء، بالنسبة إليها هي تعيش الحاضر بكل ما فيه، والحاضر هو ألمانيا وعملها وعائلتها بغض النظر عن المكان والحدود والأسماء. لذلك ليس لديها أي مخاوف بشأن تعاريف مثل “القادمون الجدد والمهاجرون القدماء”، بل على العكس تعتبر أن الجدل المستمر حول الاندماج هو مجرد ادعاءاتٍ سياسية لا محل لها على أرض الواقع، فهي تعيش مع جيرانها كأنها ألمانية ومع أصدقائها كأنها في مصر.
تدرك هادية طبعاً أن ليس الجميع يوافقونها الرأي، وبعض المصريين يتناولونها بالسوء لمجرد أنها لا تلتزم مثلهم بالعادات الشرقية أو الإسلامية وتتصرف كأنها مواطنة غربية، لكنها تعتبر أن لا شيء مما يقولونه يمكن أن يؤثر عليها، وهي لا تهتم أبداً لآرائهم لأنهم مغيبون، فهم لا يستطيعون أن يعيشوا حياةً حقيقيةً هنا، ولا يرغبون أيضاً في العودة إلى بلادهم حيث يمكنهم الغرق في تقاليدهم التي يدافعون عنها وهذا بالنسبة إليها هو قمة التناقض، وتضحك وهي تقول كيف ألقي بالاً لمثل هؤلاء.
تقول هادية أنها عانت قليلاً مما ظنته “عنصرية” في سنواتها الأولى في ألمانيا قبل أن تتمكن جيداً من اللغة الألمانية، لاسيما أنها ذات ملامح إفريقية وكانت تعيش في دريسدين شرقي البلاد، أحست لفترة بالقلق، لكنّها لم تتعرض فعلياً لأي إشكال حقيقي أو اعتداء أو إهانة، تقول أننا نأخذ أحياناً مواقف سلبية من الألماني حين يتكلم ببرود أو جفاء فقط لأننا نعتقد سلفاً أنه عنصري، وهو قد يكون كذلك وقد لا يكون، ولكن لا فرق في الحالتين لأنه لن يتجرأ أصلاً على مخالفة القانون والتعرض لي أو لغيري بالأذى. ومن يفعل ذلك فهو مجرم أصلاً وسيرتكب جرمه بحق أي شخص سواء كان أوروبي أشقر أو أسمر مثلي. وهذا لا يخيفني لأنني أعرف أنني سأحصل على العدالة وهو سيلقى العقاب.
تشير هادية إلى أن المصريين بكل الأحوال قلائل في ألمانيا وهم موزعون في المدن ولا يشكلون تكتلاتٍ ولذلك يسهل اندماجهم في المجتمع لاسيما الجيل الثاني ولذلك لا يقلقها عدم قدرتهم على الاندماج لأنهم أصلاً ذائبون في المجتمع ويعيشون تفاصيل حياتهم ببساطة، ومهما كانت عقدهم الداخلية فهي تخصهم هم وحدهم.
محمد: سأجد بيتاً لي وسأكبر هنا وأموت هنا..
محمد في الثامنة والخمسين من العمر، سوري وصل منذ ثلاث سنوات مع زوجته وأبنائه الثلاثة كلاجئ، عانى الأمرين في رحلته مع عائلته، وهو الآن يتعلم اللغة بشغف رغم كل ما يلاقيه فيها من صعوبة، يقول إنه اضطر لإعادة كورسات اللغة وسيستمر في محاولة الحديث والتعلم مهما حصل، ولا يخجله رسوبه ولا الأخطاء التي يرتكبها في اللفظ والقواعد.
لكن مأساته أكبر، فقد غادرته زوجته عائدةً إلى سوريا لتعيش هناك بدونه وبدون أبنائهما لأنها لم تستطع احتمال الغربة، يقول محمد أن زوجته أمضت سنة ونصف هنا في برلين “ولم تنشف دمعتها”، كانت تشتاق للحارة والسوق والجيران والأهل، وأحست أنها لو بقيت فستموت كشجرة اقتلعت من أرضها، ولن تتمكن أبداً من تقبل الغربة. ربما لو استطاعت أن تعيش هنا في حيٍ سوري كان هذا سيسهل عليها الجحيم الذي تعيشه، لكن هذا صعب، فالسوريون متناثرون في البلد ولا يوجد أحياء خاصة بهم كما الأتراك مثلاً. ويقول إن وضعها ازداد سوءاً حين مرضت وذهبت إلى طبيب سوري يعيش في ألمانيا منذ ثلاثين سنة ربما، لكنه عاملها بطريقة سيئة حسب قولها، ولم تعرف السبب. فقط قالت حتى السوريين هنا سيئون.
يقول محمد لا أعرف ماذا يقصد الجميع بالاندماج. بالنسبة لي أنا هنا في بلد جميل مع أبنائي، هم يدرسون وسأضمن لهم مستقبلاً جيد، وصار لديهم أصدقاء. الكبير بدأ رحلة البحث عن عمل، جميعنا أخذنا قراراً بسيطاً “نريد أن نعيش وننجح سواء كنا هنا أو هناك، وبالنسبة لي أي مكان في العالم هو بيت آمن، وبالنسبة لهم هم يريدون أن يستمتعوا بشبابهم، ولا يمكن أن يضيعوا حياتهم في ذكريات ستنتهي بعد فترة، أو في استصعاب لغة لا بد أن يتعلموها في النهاية”. أما بالنسبة لزوجته فهو يقول أنها اتخذت قراراً خطيراً قبل قرار العودة إلى سوريا، يقول أنها قررت منذ اللحظة الأولى أنها لا تنتمي إلى هذه البلاد ولا تريدها.
اضطرب محمد عند سؤاله عن القلق من العنصرية في ألمانيا، يقول أنه أحس بذلك في مدرسة اللغة، وهو ما آلمه للغاية، لأنه المكان الأول الذي يفترض أن يكون نقطة البداية ليتقبل البلد وتتقبله. فبرأيه أن مدرسة اللغة كانت تتعامل مع اللاأوروبيين في الصف بطريقة سيئة ولا تتوقف عن السخرية من لهجتهم ومن أنهم يضيعون الوقت في بيوتهم وفي الشوارع ولا يدرسون ولا يفكرون بتطوير أنفسهم.
تعرض محمد لعدة إزعاجات من هذا القبيل لاسيما أثناء بحثه عن منزل، فهو مايزال يقيم مع أبنائه في سكن مشترك لأن أحداً لا يريد تأجيرهم بيتاً. “لكنني سأجد بيتاً لي وسأكبر هنا وأموت هنا، فقد يكون هنا هو الوطن الوحيد المتبقي لي”.
اقرأ/ي أيضاً:
القادمون الجدد والمهاجرون القدماء.. أزمة الحاضر والماضي 2
الحنين لسوريا الوطن، أم الحنين لوطنٍ مشتهى؟
موسم الهجرة إلى الشمال
أن تكون لاجئاً تسكن العالم الافتراضي