فادي حولي. صحفي سوري مقيم في برلين
ترتبط لفظة “الأخوين” في أذهاننا بالأخوين رحباني والأخوين شحادة، ومع أحمد ومحمد ملص اتسع مدى هذا الارتباط لإسميهما أيضاً: “الأخوين ملص”.
الأخوان ملص فنانان سوريان نجحا في إثبات نفسيهما باكراً في سوريا عبر أعمالٍ مسرحية ثورية عُرضت في دمشق مع بدايات الثورة، ومؤخراً في العالم عبر عشرات الأعمال المسرحية والسينمائية والدرامية المتعلقة بالواقع السوري ومآلات أهله في الداخل والمهجر وبلدان اللجوء.
التقيت بالأخوين وكان فضولي عظيماً لأعرف أكثر عن تلك الفترة التي عاشاها في دمشق الفائرة بحراس الليل، لأسألهم عن الأثمان التي تترتب على المرء الحرّ إذا ما جاهر بحريتهِ. ولأعرف أيضاً وجهة نظرهما المشتركة عن السينما والمسرح السوريين خاصةً في ظل التفكك الاجتماعي الذي بات واقعاً لا يمكن تجاهله، والعديد من القضايا والأسئلة التي لا بد من تقصيها وبحث أجوبتها.. فكان لي معهما هذا اللقاء:
مسرح الغرفة.. ازدحام ورياح ثورة رغم الضيق
بدأ الأخوان ملص مسيرتهما الفنية في غرفة صغيرة في منزلهما الدمشقي بعد أن رُفضا في المعهد العالي للفنون المسرحية؛ غرفة أطلقا عليها اسم “مسرح الغرفة”، وارتادها العديد من القامات الفنية في الساحة السورية.
لكن سرعان ما اضطر الأخوان ملص إلى الخروج من سوريا على ضوء اعتقالهما في مظاهرة حي الميدان، والتي سميت أيضاً بمظاهرة المثقفين، خرجا وليس في جعبتهما سوى أسطورة “مسرح الغرفة” وقضية ملايين الثائرين.
أسستما “مسرح الغرفة” في غرفتكما الصغيرة في شارع العدوي في دمشق، وكان مرشحاً ليكون أصغر مسرح في العالم بحسب موسوعة غينيس، استضاف كبار الممثلين والمخرجين السوريين، وقدمتما فيه العديد من المسرحيات ذات الطابع السياسي المعارض. لو تحدثاننا عن هذه التجربة وذلك المسرح وما كان يعنيه لكما.
الحياة في سوريا بالنسبة لنا كانت أشبه بالسجن، وأنت في السجن تحاول أن تصنع الفرح في الحيثيات الموجودة بين يديك، فلا مجال لأن تطالب بمستلزماتك التي تريدها لتصنع ما تحب؛ وبالتالي قررنا أن نصنع فرحنا (فننا) بما نملك، والدانا شجعا الفكرة لأنهما كانا يراقبان تجربتنا منذ عشر سنوات، ويلاحظان أننا بذلنا جهداً كثيراً بينما الخيبات هي ما نصل إليه دائماً، ففي بلد الديكتاتور النتائج دائماً لا توازي الجهد المبذول، وعندها صنعنا مسرحنا في غرفتنا في منزلنا.
مسرح الغرفة بالنسبة لنا هو الوطن، بينما ما في الخارج من شوارع متسخة وعلاقات فاسدة وأبنية حكومية مقززة، وسيارات مسؤولين تخالف القانون بتفاخر وفن معيب ومخجل وما إلى هنالك، فقد عشنا معهم بمحض الصدفة لأننا ولدنا هناك”.
برزت مسرحية ” الثورة غداً.. تؤجَّل إلى البارحة” كواحدة من أهم مسرحيات التي قُدمت آنذاك (2011) في دمشق، ولا سيما أن الوضع الأمني كان معقداً للغاية، عالجتما من خلالها معظم القضايا التي طرحتها الثورة السورية. كيف كان تفاعل سوريي الداخل مع هذا العمل آنذاك؟ وما مصيره اليوم؟
السوريون انقسموا طبعاً، ففي فترة عرضنا لهذه المسرحية كنا نخسر أصدقاء، ونكسب أصدقاء جُدد. ومحاكمة هذا العرض لم تكن محاكمة موضوعية، فمن كان يدعم النظام هاجم العرض ومن كان مع الثورة دعم العرض، الحالة الثورية هنا كانت أكبر من الحالة الفنية بمراحل، ولكن بعد مضي عدة سنوات، شاهد مخرج فرنسي/برتغالي مقاطع من العرض مترجمة للفرنسية، وقرر أن يصنع من هذا العرض فيلماً قصيراً، قمنا بتصوير الفيلم ومؤخراً شاهدناه بعرض خاص، كان بعنوان “الشفق”.
“ونضيف ملاحظة هنا، أننا شاهدنا العرض بعد عدة سنوات وقد أعجبنا جداً، بغض النظر عن موقفه السياسي ولكن العرض كان جيداً ومتماسكاً”.
توجتما هذه التجربة المسرحية بكتاب صدر مؤخراً عن دار “كتاب سراي” في تركيا وحمل عنوان “مشهد 33” وهو يضم سبعة نصوص قُدمتْ تحت مظلة “مسرح الغرفة”. ما الذي يميز هذه النصوص عن سواها في تجربتكما المسرحية حتى أفردتما لها كتاباً دون غيرها؟
طبعاً لكل تجربة خصوصيتها المركبة، فكل تجربة هي حياة كاملة بالنسبة لنا، ابتداءً من الفكرة حتى كتابتها ثم عرضها، وتفاعل الجمهور معها، أنا أرى أن “نجم” و “أبو هاملت”، الشخصيتان الرئيسيتان في مسرحية “ميلو دراما”، هما ممثلان أرهقتهما الحياة السورية، بينما نزار ويوسف في مسرحية “كل عار وأنت بخير” يلملمان انكساراتهما الكثيرة والكبيرة في ما يسمى وطناً، ولكن “اللاجئان” وهي المسرحية التي كتبناها باللغة الفرنسية فهما شخصيتان مختلفتان تماماً عن باقي الشخصيات، لأن معاناتهما تنطلق من الحنين وصعوبة الاندماج في وطن يرون فيه بعض الإيجابيات الجميلة؛ ولكن المسرحيات الثلاثة انتهت بنفس الجملة: “بدي شم ريحة ربي” إنهُ توقيعنا كما يوقع الرسام في زاوية اللوحة، ربما الأمر كذلك.
من الهجرة واللجوء إلى الوطن مجدداً .. العودة لأيام الكرز
من سوريا إلى لبنان ثم مصر، وأخيراً إلى فرنسا، المحطة الأخيرة، هناك حيث واظب الأخوان ملص على العمل في مجالي المسرح والسينما، وقدما العديد من المسرحيات على المسارح الأوروبية والعالمية وحصدا العديد من الجوائز.
تعد مسرحية “اللاجئان” من أبرز ما قدمتما بعد هجرتكما إلى فرنسا عام 2012، مسرحية تحاول تعرية أوضاع اللاجئين في الدول الأوروبية، من خلال شخصيتين متناقضتين تخوضان نقاشاً طويلاً حول قضايا اللجوء. لماذا اخترتما الفرنسية كلغة عرض؟ وكيف تقيّمان تلقي الجمهور الفرنسي لنص اللاجئان؟
اخترنا الفرنسية لكي نخاطب الجمهور بلغته، بعد أن قمنا بعدة تجارب لمسرحيات قصيرة بالعربية مع ترجمة معلقة في الأعلى، ثم قررنا أنه يجب الانتقال إلى مرحلة ثانية من العمل، مرحلة تحاكي مشاكل المكان بلغة المكان ذاته، فقررنا صناعة عرض مسرحي يصفق له الجمهور لأنه متقن وفني وليس لأن صناعه لاجئين، والنجاح فاق توقعاتنا وخيالنا الحمد لله، عرضنا في باريس ورانس وليوم سانت تيتين في فرنسا، ثم بلجيكا فالأردن وأربيل بالتعاون مع المركز الفرنسي، وأخيراً في اليابان.
وأما بالنسبة لتلقي الجمهور الفرنسي للنص يقول الأخوان ملص:
“لقد كان أجمل مما تخيلنا بكثير، فالمسرح هنا ثقافة حياة، والناس في فرنسا تأتي إلى المسرح لكي تستمتع وتحلل وتقرأ ما بين السطور وتناقش الأفكار. وبعد العرض الناس تبتسم وتتحدث، لا أعرف لماذا عندما كنا نخرج من مسرح الحمرا في سوريا كنا نشعر أن بعض الناس وكأنما خرجوا من عزاء مثلاً”.
إضافةً إلى التمثيل تقومان بالتأليف والإخراج، وألفتما وأخرجتما العديد من الأعمال السينمائية والمسرحية، ولكن لعل الفيلم الوثائقي “أيام الكرز” كان الأبرز والأكثر شجاعة، خاصةً وأنه صُوَّرَ في معرة النعمان عندما كانت المنطقة تحت سيطرة التنظيمات المتطرفة. فما الذي دفعكما لاتخاذ ذلك القرار الخطير؟ وما الآثار التي خلفها هذا الفيلم في نفسيكما وفي تجربتكما الفنية؟
نذكر وقتها أن المدينة كانت مليئة بـ جبهة النصرة التي سيطرت على المدينة لاحقاً، أما ما دفعنا لصناعة فيلم “أيام الكرز” فهو بكل بساطة ما دفعنا لكل شيء في هذه الحياة: الفن والثورة.
“هذا الفيلم ترك في داخلنا مشاعر متناقضة جداً بين الفرح والحزن، فأنت تعود إلى وطنك الذي هجرته مرغماً وتدخل إليه تهريباً من تركيا ولا ترى على جدرانه صور الديكتاتور، ولكن في ذات الوقت كنا نرى علائم بداية سيطرة جبهة النصرة ثم أبنية مدمرة، وبعد ذلك الناس يصارعون كل شيء من أجل الحياة فيضحكون ويمزحون ويصفقون في نفس الوقت! حالة غريبة جداً، ولكن أجزم أن مشاعر الأمل هي التي كبرت في داخلنا بعد هذه المغامرة”.
ثمة تجارب ضخمة لمخرجين سوريين أمثال أسامة محمد ومحمد ملص وعمر أميرالاي وغيرهم قبل الحرب السورية. فكيف ترون اليوم السينما السورية سيما أنها تسير في اتجاهين متعاكسين ومتناقضين على مستوى السردية السياسية والاجتماعية؟
المخرجون السوريون الكبار شاهدنا تجاربهم طبعاً، استفدنا منهم حتماً دون أن نشعر؛ ولكننا الآن صناع أفلام، وتقييمنا لهذه التجربة سيكون غير موضوعي ربما، ولكن دعني أخبرك قصة كمشاهد؛ قبل عدة سنوات التقينا بالقاهرة بالصديق المخرج “طلال ديركي” عندما كان يقوم بمونتاج فيلمه الوثائقي الأول، وبعدها بسنوات كنا نشاهد طلال على التلفزيون في حفل جوائز الأوسكار.
أما بالنسبة لسينما العصابة السورية، فهم ينتجون الأفلام ويعطونها الجوائز ويفرحون بما فعلوا، يتعاملون مع السينما كما تعامل حافظ الأسد مع انجازاته في الحركة التصحيحية كأحسن تقدير.
“حقيبة” عنوان فيلمكما الذي حصل مؤخراً على جائزة في أحد البرامج العربية عن فئة الأفلام القصيرة. متى تختاران السينما وليس المسرح أو الدراما لتجسيد أفكاركما؟ وما أثر الجوائز على الأخوين ملص وخياراتهما الفنية؟
شكراً فالسؤال جميل وغريب، والاختيار هنا يأتي من جملة قالها تولستوي: “الفن تعبير عاطفي”، وبالتالي نحن نتحدث عن الفكرة ونشعر بها أين ستذهب دون أن نحدد لها الطريق.
كان لدي صديق في المراهقة يشعر أن الفتاة التي يحبها ستمر من ذلك الشارع، يذهب وينتظرها.. وبعد دقائق نراها تمر من الطريق الذي شعر به! هذا بالضبط ما نفعله مع الأفكار، ننتظر الفكرة في المسرح أو السينما أو الشاشة الصغيرة، وعندما تأتي كما توقعنا نتأكد تماماً بأننا نعشقها.
“العالمية تنطلق من المحلية” .. ثورة ضوء على الشاشة الصغيرة
تكلل جهد الأخوين ملص بالعديد من النجاحات؛ فقد حصلا على جائزة أفضل فيلم في مهرجان لوس أنجلوس الشهري على فيلمهما “أيام الكرز”، ونالا جائزة أفضل فيلم وثائقي في مهرجان هوليوود إنترناشونال أون لاين عن فيلم “البحث عن عباس كيارستامي”، وغيرها من الجوائز.
في الوقت الراهن، سيبدأ الأخوان ملص أولى تجاربهما في الدراما الفرنسية، إلا أنهما ما يزالان ينويان التركيز على قضيتَي الهجرة واللجوء في أعمالهما المسرحية والسينمائية.
لديكما تجربة طويلة على منصة اليوتيوب مع مسلسل درامي أسميتماه “ثورة ضوء”، ويذكرنا هذا العنوان بمسلسل “بقعة ضوء”. ما سبب هذا التقاطع بين الاسمين؟ وما الرسالة التي حاول الأخوان ملص إرسالها من خلال هذا المسلسل؟
في بداية الثورة قررنا أن نعمل ضمن ما يسمى بالفن المباشر، كنا نعتبر أن أي عمل فني مباشر نضعه على اليوتيوب هو بمثابة مظاهرة قمنا بها وحدنا تضامناً مع الشعب السوري، خاصة أننا خرجنا مضطرين من البلد بعد مهاجمة الأمن العسكري لمنزلنا، وشعرنا أننا يجب أن نكمل طريقنا في هذه الثورة العظيمة، وبالتالي جاء ثورة ضوء، انطلاقاً من المسلسل الشهير بقعة ضوء والذي تحول بعد أول يوم من الثورة السورية من عمل جريء إلى عمل قديم جداً لا يستطيع أن يحاكي قصة طفل من درعا.. فكان ثورة ضوء.
صراحةً لا نؤمن كثيراً بموضوع الرسائل، نحن نشعر بأننا نريد أن نقول شيء، فنقولهُ ونتحمل النتائج بسرور.
يمكن للمشاهد ملاحظة أن ما تقدمانه من أعمال فنية إنما هي أعمدة لمشروع مترابط على صعيد النص وموضوعاته الملتزمة بالقضية والمعاناة السورية. فما هو مشروعكما وما العوامل أو الموضوعات التي تؤثر في تشكيله كمشروع؟
يقول ماركيز: العالمية تنطلق من المحلية! نحن شابان عاشا في العالم الثالث لمدة 30 عاماً تقريباً، وعندما بدأت حياتنا في دولة القانون في فرنسا عشنا فيها كلاجئين؛ فاقدين للغة والوطن، وبالتالي أبطال أعمالنا هم المهمشين والمظلومين واللاجئين، وليس من أحلامنا أن نصنع فيلماً عن قصة كفاح غسان عبود مثلاً.. كما يسمونها. ولكننا صنعنا فيلماً اسمه “كانت بقايا للغرام” وكان البطل فيه لاجئ عربي في شوارع فرنسا.
نحن نبحث عن المركب والصعب والمعقد والبسيط في آن معاً.. فهو أكثر إثارة بالنسبة لنا من قصة رجل أعمال يقوم بتغيير ديكور منزله.. أتعلم؟!.. نتمنى أن نصنع فيلم عن الفنان فضل شاكر مثلاً..
في الختام أود أن أسأل عن جديدكما في المستقبل القريب؟
- تلفزيونياً: خلال أيام سنبدأ بتصوير أولى مشاهدنا في المسلسل الفرنسي ريبيكا، وهي تجربتنا الأولى في الدراما الفرنسية.
- سينمائياً: انتهينا من كتابة نص اسمه حتى الآن: “مسافرٌ زاده الخيالُ” سيكون من إخراج الصديق وسيم قشلان، أعتقد ببداية عام 2021 سنقوم بتصويره في السويد، مالمو.
- مسرحياً: شاركنا في مسرحية مع المخرج البلجيكي الإيطالي Patrick Duquesne عن نص بريخت الإنسان الطيب من ستشوان، وبسبب الكورونا توقف العرض وأعتقد أننا سنعاود رحلة العروض بعد فترة، ومسرحية اللاجئان الناطقة بالفرنسية ستعاود الانطلاق والاستمرار.
- الشاشة الصغيرة YOUTUBE: نحن نقوم بالتحضير لموسم جديد من “زيت وزعتر”، ولكن هذه المرة في مدينة بروكسل في بلجيكا ثم كوبلنز في ألمانيا.
اقرأ/ي أيضاً:
سمر سامي.. هل تعلمين كم أنت جميلة
أن تكون إنساناً بما تعنيه الكلمة من دلالةٍ “أخلاقية” أو لا تكون.. مصطفى خليفة صاحب رواية “القوقعة”
“إجراء شكلي”.. لعبة مسرحية من تصميم “تجمع مقلوبة”
مسرحية “حبك نار” ، صرخة سورية من برلين