مصطفى علوش
أزعم أنني كائن قريب جدًا من الكلاب وعالمهم الراقي، ربما لأن السياسة الرسمية في العالم العربي جعلتنا نجوع إلى كل شيء، ونفتقد كل شيء، فمنذ رفع البعثيون شعار “أمة عربية واحدة” صار اللصوص الحكوميون يسرقوننا كل يوم، ومع أول درس في التربية الوطنية عاشه جيلنا المنكوب، كانت الأحجار ترمى ليس على العدو الصهيوني “الغاشم طبعًا”، وإنما على الكلاب الشاردة التي تورطت بالولادة في وطن لا يحترم فيه أحد أحد، فكيف يحترمون كائنًا رقيقًا شفافًا مثل الكلب.
وفي العودة إلى موضوعنا الرئيس هذا، نعم الرئيس، وهذا التصحيح اللغوي تعلّمته في مجمع اللغة العربية الذي يضمَ الآن خمس أعضاء على قيد الحياة وخمسين باحث ميت، والأحياء يعانون من تورم في حالة القواعد والصرف، ومن منجزات هذا المجمع تسمية حضرة “التلفزيون” عفوًا، تعريبه إلى “الرائي”!
أعود إلى قضية الكلاب لأقول إنني شعرت هنا في ألمانيا أنني أقرب إنسان إلى الكلاب، وصرت كلما رأيت ألمانيًا يداعب كلبه ويمشي معه في الطريق متبخترًا، أشعر بالغيرة والحسد الحضاري والثقافي من هذا الشعب العظيم الذي يحترم كل شيء حيَ على وجه البسيطة.
نعم أعزَائي، أنا أحترم الكلاب، وعندما كنت أعيش تحت حكم البعث، وأعمل في صحافته، كنت أشعر بالحزن لهذه المطالبات الصحفية الخاصة بالقضاء على الكلاب الشاردة، وبعد أيام كانت تتحفنا تلك الصحيفة بخبر يقول إن بلدية “التنفس الاصطناعي” قضت على الكلاب الشاردة في منطقتها، وفي تلك الأيام الرومنسية، كان من الصعب عليَ التصريح بمشاعري هذه لأن “حماة الديار” كانوا سيضحكون على براءتي هذه ويقولون فورًا: “نعنوع أفندي حضرتك!”.
هنا، ليس في ألمانيا فقط، إنما في كل الدول الغربية، يولد الكلب ومعه هوية وجواز سفر واسم وطعام خاص وطبابة وحمَام دافئ وبيت واسع ومهمات تتفق تمامًا مع طبيعتة الكلبية، فلا يمكن مثلاً أن نطلب من كلب بوليسي أن يكون رقيقًا مثل الكلاب الصغيرة ذات الفرو الناعم.
وأثناء حياته، أقصد الكلب طبعًا، لا يمكن لأيَ كان أن يفرض عليه انتماءه السياسي أو الديني، فالكلب يتخذ ما يريده من مواقف سياسية دون أن تلاحقه استخبارات الناتو الجوية.
يأكل متى يريد وينام متى يريد، وينبح متى يريد، وكل همَه هذا التوافق الطبيعي بينه وبين صاحبه أو صاحبته.
بينما في بلاد المشرق ومنها سورية طبعًا، يولد الكلب خائفًا مرعوبًا من البنية الاجتماعية والنفسية في الحي الذي تورط وولد فيه، كما يشعر بالرعب من الصحافة ومن التلفزيون ومن الصغار والكبار، ويشعر بالقرف من العادات والتقاليد التي تصفه بالكائن غير “المحترم” وأحيانًا يموت من الجوع والقهر منذ نعومة أنيابه، أما في هذه الأيام فإن الكلاب في سوريا تستحق قرارًا دوليًا تحت الفصل السابع من أجل حمايتها، والسبب هو القنص والقصف الجوي الذي لحق بها، لمجرد أنها كائنات ولدت على أرض سوريا، مع أن بعضها أيضًا يملك رؤيا سياسية ناضجة جدًا.
وفي أحد الأيام جلست مع أحد الكلاب الألمانية ورويت له بما أستطيع من لغة وتعابير ألمانية وإنسانية قصة شقيقه “الكلب السوري” الذي يموت من الجوع والخوف، وشرحت للكلب الألماني مطوَلاً عن هذا التمازج بين وظيفة الكلب في سوريا وبين وظيفة الاستخبارات، وهنا عند هذه النقطة الأمنية الحسَاسة بدأ الكلب الألماني بالنباح احتجاجًا على الإساءة لجنس الكلاب عمومًا وقال لي باللغة العربية: هذه إساءة وعنصرية تمارس بحق الكلاب.
وتابعت في سرد بعض المآسي التي عاشها الكلاب في سوريا، حيث ترى الكلب يمرّ في أي شارع حذرًا مسرعًا، ولكن أطفال الحي ما إن يروه حتى يبدؤون بإطلاق مدافع الحجارة اليدوية عليه صابّين عليه حقدهم، كأن هذا الكلب صاحب الحظ السيئ هو من باع فلسطين أو لواء اسكندرون أو كأنه هو من يقصف المدنيين بالبراميل.
وفي الحقيقة، شخصيًا، ولكي أثبت للألمان أني مندمج كليًا هنا، أنوي شراء كلب محترم ذو أصول معروفة، ولكن لن أفعل ذلك إلا بعد دخولي سوق العمل، فمن غير المعقول أن أشتري كلبًا وأنا أعيش على راتب الضمان الاجتماعي، وأنوي تسميته باسم ألماني عربي مشترك تثبيتًا لسياسة الاندماج، وذلك حتى يكون التقارب الثقافي بيننا على أحسن شكل.
ومن أجل تعميق الصداقة بيني وبين ذلك الكلب الألماني رويت له قصة القصيدة التي كتبها أسعد رستم وهي مستوحاة من رؤية الشاعر لكلب في الشارع، وقد استمع صديقي الكلب بعمق للقصيدة:
في الشارع اليوم صادفت كلبًا – إليَ بعـــــــين الرجاء نظـــــر
وقفــــت وقــــــــد كنت مســـــتعجلاً – وقلت بنفسي له ما الخبر
فقـــــــال على صـــــــــــــمته ناطــــــقًا – يخاطبني بلســــــــان البصر
“ســــــــــــــــــلام” فقلت: ومن أنت؟ – قال: أنا هو كلبك المحتقر
أهبهب حـــــــــــــــــول البيوت نهارًا – وليلاً لأنذركم بالخطــــــــــــــــــر
ألاعــــــــــب بالركض أولادكــــــــــــم – فأحمل عنكم بعض الضجر
يعير بعضـــــــكم بعضًا بإسمي – وذلك يملأني بالكــــــــــــــــــــــــــــدر
ونحن كلاب شــــــــعور وعطف – فلســــــــــــــــــــنا حميرًا ولسـنا بقر
ويضـــــــــــــــــربنا بعضكم بالعصا – ويرشــــــــــــــقنا بعضكم بالحجر
أهذا من العدل يا ســــــــــــــــيدي؟ – أهذا الذي منكم ينتظـــــــــــــــــــــــر
فأشـــــــــفقت من كل قلبي عليه – وطشــــــــــــــــت مدحًا له فافتخر
وســــــــرت به نحو بيتي سريعًا – وباللحم أشـــــــــــــــــــــــــبعته والثمر
وبعد أن انتعشـــــــــــــــت نفســـــــــــه – ونور الســــــــــــــــرور عليه ظهر
تحرك للشـــــــــــــــــــــــــــــــكر منتفضًا – وهزَ لي الذيل والمختصـــــــــــر
أرى أن هز ذيول الكــــــــــــــلاب – لأصدق من هزَ أيدي البشر.
وهذا غيض من فيض، وحين أشتري كلبي “الحلم” سأدون يومياته وأنشرها كما يليق بكلب محترم..
كاتب سوري