سعاد عباس. رئيسة التحرير
“وكأننا نهدد هوية البلاد، أو كأننا نمثل الغزو الإسلامي القادم لتحجيب أوروبا”
هذا المقال منشور في صحيفة Zeitonline الألمانية، تعقيباً على الجدل الذي دار في الشهر المنصرم حول منع الفتيات ما دون الرابعة عشر من العمر من ارتداء الحجاب في المدارس.
يستمر طرح قضية الحجاب الإسلامي للنساء في أوروبا، والآن يزداد صداه في ألمانيا حتى أصبح الأمر شأناً عاماً، في حين تعتبره النساء المسلمات انتهاكاً للحرية الشخصية للمرأة فيما يتعلق بخياراتها في الأزياء والإيمان والتعبير عن شخصيتها. كما يعتبرن أن ربط ارتداء الحجاب بالاضطهاد الذكوري -وهو ما تنفيه نساءٌ كثيرات- لا يبرر الاضطهاد المعاكس بفرض نزع الحجاب إرضاءً للطرف الآخر ومنع هؤلاء النساء أنفسهن من ممارسة شعائرهن الدينية التي تفرض ارتداءه.
“نحن دوماً على أغلفة الصحف، من النقاب إلى البوركيني، يتعاملون معنا وكأننا تهديد للهوية المسيحية للبلاد، أو كأننا نمثل الغزو الإسلامي القادم لتحجيب أوروبا والقضاء على ثقافتها الرائدة.. كل هذا الجدل لا يتعلق بنا ولا ببناتنا، فلا أحد يبالي بسؤالنا عن رأينا في أمر شخصي لهذه الدرجة”
هكذا أبدت دانيا محمود (اسم مستعار) امتعاضها حين بدأنا الحديث عن القضية الأحدث حالياً في الإعلام الألماني؛ حجاب الصغيرات في المدارس. وأشارت في نفس الوقت إلى أهمية هذا الأمر ولكن من منطلق التأثير النفسي على الأطفال وبعيداً عن المواقف السياسية والدينية وكل أشكال التطرف الملبيّة لميول الداعين إلى هذا المنع أو الرافضين له. أصوات نساءٍ أخريات تعالت في يأس من أن يتم تناول الأمر من هذا الجانب.
كنا 13 امرأة بينهن أنا، وسط همهمات المصلين المتبقين في الجامع بعد صلاة يوم الجمعة، المصاحف مفتوحة أمام النساء اللواتي كنّ يتناوبن على قراءة الكتاب المقدس، ملامحهنّ وأزياؤهنّ ولهجاتهنّ مختلفة، أغلبهن مهاجرات قديمات يعشن في ألمانيا منذ الطفولة جئن من فلسطين، لبنان والمغرب، وأربع سيدات سوريات جئن حديثاً إلى ألمانيا، وافقت السيدات على الحديث للصحافة بعد موافقة إمام المسجد والتأكيد على أن آرائهنّ شخصية بحتة ولا تمثل المسجد.
دانيا محمود في الخمسينيات من عمرها كانت سابقاً مديرة مدرسة في سوريا وصلت إلى ألمانيا منذ ثلاثة أعوام، ترتدي حجاباً ملوناً يوحي بأنها ليست من المسلمين المتشددين لكنها بنفس الوقت تعتبره جزءاً لا يتجزأ من شخصيتها، تماماً كنظارتها التي لا تفارقها. تستغرب الطريقة التي يتم فيها تناول الحجاب في الصحف والإعلام باعتباره رمز لدونية المرأة واضطهادها، فهي لطالما كانت صاحبة القرار الأول في حياتها وعملها ودراستها، ولم تكن يوماً خاضعةً لسيطرة أو قرارات رجال عائلتها كما توحي الميديا، لم تشعر يوماً بالاضطهاد، فلماذا يعكس العالم عنها صورةً مختلفةً تماماً هنا. كلا ابنتيها نزعتا الحجاب في أوروبا، ورغم أن الأمر لم يرضها إلا أنها لم تتدخل في قراراتهما.
بالنسبة لمنع الحجاب في المدرسة تتذكر دانيا وكثير من السوريين سواء من القادمين الجدد أو حتى القدماء أن منعاً مماثلاً كان سارياً في المدارس الابتدائية سابقاً في سوريا، وترى ألا ضير من اتباع هذا النظام هنا أيضاً. أيدتها نساءٌ أخريات من مبدأ عدم حرمان الصغيرات من الحرية واللعب، لاسيما أن ذلك سيضمن مساواتهن مع الغير وحمايتهن من التمييز في المدرسة.
كما أن حجاب الصغيرات في العرف الاجتماعي يهدف لتعويد الفتاة على الالتزام الديني ليصبح الحجاب مع الوقت أمراً من المسلمات، وهذا ينطبق على جميع الطقوس الإسلامية الأخرى المرتبطة بالصبيان والبنات سواء الصيام أو الصلاة أو قراءة القرآن، لجعل هذه التفاصيل عادات يومية لا يمكن الفكاك منها بسهولة.
لكنّ أصواتاً أخرى تعالت احتجاجاً؛ تعيش سميّة في ألمانيا مذ كان عمرها ستة أعوام ترتدي جلباباً طويلاً وهي أم لثلاث فتيات الصغيرة منهن مازالت في المدرسة الابتدائية، وهي محجبة ككل نساء العائلة، اختارت الطفلة الحجاب بنفسها فهي تريد التشبه بالكبيرات في العائلة، وهي ترتديه حين تلعب مع رفيقاتها إذ يكون دورها في اللعبة هو الأم التي تأمر وتطاع. “كيف ستشعر ابنتي إذا أجبرت على نزع الحجاب في المدرسة، كيف ستميز الصح من الخطأ، هل عليها الآن أن تشعر بالعار من أخواتها، أو يجب أن نفهمها بأنه لا بأس من أن تغير قناعاتها ما بين داخل وخارج المدرسة؟ من سيشرح كل ذلك لبناتنا؟”
تواظب سمية على دروس دينية في أحد مساجد نويكولن، الحجابُ برأيها هو حاجز الحماية الأمثل أمام انسياق الفتيات نحو ما يدعى “مظاهر الحياة الغربية”، وهو وسيلة الدفاع الأخيرة المتبقية أمام تأثيرات المجتمع الغربي وبالتالي الحفاظ على عادات وتقاليد عائلاتهنّ. وتتفق في الرأي مع العديد من المهاجرات القديمات في ألمانيا بأنهن طوال حياتهنّ هنا لم يتعرضن يوماً هن ولا بناتهن لأي شكل من الاضطهاد أو التمييز جراء ارتداء الحجاب سواء في المدرسة أو خارجها، ولكن الأمور تغيرت مؤخراً، فابنة إحداهن لم تستطع الحصول على عمل مؤخراً والسبب حجابها.
مع حرارة ظهيرة برلين وارتفاع وتيرة الحديث لم يكن أمامنا سوى زجاجات الماء المثلج لتهدئة الاختلاف الواضح في الرأي بين الجانبين، فقد أبدت السيدات من القادمات حديثاً مرونةً وتقبلاً لمنع الحجاب في المدرسة ولحرية الفتاة في الاختيار، وهو توجهٌ قد يتوافق مع ميلٍ واضح لدى كثيرٍ من اللاجئين لأن يصبحوا أكثر طواعية للقوانين المجتمعية في البلاد الجديدة، وهذا يتبع على ما يبدو لمقدار تمسكهم بالاستقرار وبناء مستقبل فيها. هذه المرونة اختفت مع التشدد الذي أبدته بضعة سيدات أخريات تجاه المساس بمعتقداتهنّ، حتى أن إحداهنّ أشارت إلى أن الجالية المسلمة في ألمانيا ستتظاهر ضد قانونٍ كهذا. وفي النهاية اتفقت السيدات جميعاً على أن العدالة في النقاش تقتضي أولاً توحيد المنع في المدارس ضد جميع الرموز الدينية لا الإسلامية وحسب.
في لقاءٍ منفصل مع الشيخ طه صبري، إمام مسجد دار السلام في برلين أشار إلى أن إلزام الفتيات بارتداء الحجاب يبدأ شرعياً مع سن البلوغ، وبالتالي ليس في عدم ارتدائه في سن صغير أي معارضة للشريعة الإسلامية، وهو يتفهم الاختلاف في الأعراف ما بين المجتمعات المسلمة الآتية من خلفيات مختلفة، فالزي الإسلامي الشامي مثلاً يختلف عن الإفريقي، وبالتالي فإن أمر الحجاب يجب تركه للتفاعل المجتمعي حتى تنتج صورة من صور التدين مطابقة لقيم المجتمع وتحترم النص الشرعي وهذا سيحدث في أوروبا بدون صدامات، لكنه عبر أيضاً عن دهشته إزاء التضخيم الإعلامي مؤخراً لموضوع الحجاب فهو يراه مجرد انعكاس لازدياد أعداد اللاجئين في ألمانيا، حيث يتم استخدام النساء وأزيائهن حجةً في كل مرة سواء ممن يؤيدون أو يرفضون الحجاب. لكنه يتفهم في الوقت ذاته القلق الألماني من المظاهر الإسلامية لاسيما مع استغلال الإعلام لحوادث فردية توظف خوف الإنسان من كل ما يجهله، مما يضع اللاجئ والمسلم عموماً في دائرة الاتهام.
ويعتقد بأن على الأقلية المسلمة أن تبادر بشجاعة بالتحرك نحو الخائفين هنا لتبديد مخاوفهم وبناء الثقة: “علينا أن نفتح أبوابنا ليرانا الآخر ويطمئن إلينا فاللقاء هو الذي سيحقق المعرفة المتبادلة ويبدد الخوف، لنعيش مع بعضنا وليس جنباً إلى جنب”.
خارج جدران المسجد يتبادل الرجال والنساء الآراء نفسها لاسيما على مواقع التواصل الاجتماعي، ويصعب قليلاً التمييز ما بين وافدٍ حديث وقديم. لكن فئةً أخرى تعتبر أن النقاش يجب أن يتعدى الإطار الضيق للحجاب، ليبحث في أصل المشكلة بعيداً عن الإسلاموفوبيا التي تحول محاولات التواصل البناء إلى مجرد تبادل للاتهامات بلا جدوى.
فالقلق الألماني مرتبط بما يسمى “ضعف الاندماج” التاريخي للمجتمعات المسلمة مع المجتمعات الأوروبية عموماً، مع تجاهل بأن المسلم العادي في ألمانيا وجد نفسه فجأة في دائرة الاتهام بسبب أخطاء غيره وهو مطالب بتغيير نفسه وعاداته ليرضي الآخر، وهذا ما يولد رد فعلٍ سلبي غالباً، لاسيما وأن الحديث يدور غالباً عنه وليس معه.
اقرأ أيضاً: