تتفاوت حكايات اندثار اللغات مأساويةً، ليبقى السؤال الأهم عن السبب تحديداً. ولم يحدث موت لغة أكا-بو كغيرها من اللغات المنقرضة فارقاً في حياة السواد الأعظم من الناس.
إلا أن الشعور بخسارة شيء ذي قيمة حين تموت اللغة أمر مألوف، بقدر التآلف في الوقت عينه، مع مبدأ أن الحفاظ على لغات الأقليات ليس إلا مضيعة للوقت والموارد. فكيف نوفق إذاً بين الموقفين؟
يرتبط التعريف الأبسط للغة الأقليات بأنها تلك التي يتحدث بها أقل من نصف سكان بلاد أو منطقة ما. وعادة ما نعني بالحديث عن لغة الأقليات تلك التي تكون أقلية حتى في البلد حيث تنتشر. وتركز الكاتبة ريبيكا رواش، أستاذة الفلسفة بجامعة لندن على لغات الأقليات المهددة أو المعرضة ربما للخطر بغياب المساعي الحقيقية لدعمها.
وفي الردّ على تلك الطروحات، اعتبارات يقول أولها إن قيمة لغات الأقليات ليست عاطفية محضة، إنما ذات أهمية علمية. وتوجد مجالات بحث كاملة مكرسة لتفصيل تاريخها وعلاقاتها باللغات الأخرى، والثقافات المؤطرة لها. ويساعدنا فهم تلك اللغات على إدراك طريقة تفكيرنا. إذ يعتقد البعض أن اللغة التي نتحدث بها تؤثر على الأفكار التي لدينا، أو أنها هي ما تجعل التفكير ممكناً أصلاً. ويرتبط هذا الزعم بما يسمى فرضية «سابير-وورف» أو النسبية اللغوية التي وصفها عالم اللغات والعلوم الاستعرافية في جامعة هارفارد ستيفن بينكر بـ “المغلوطة تماماً”.
وترتبط النسبية اللغوية بمجموعة من الأساطير والخرافات المريبة، لكن فكرتها الجوهرية ليست مغلوطة كما يعتقد بينكر. وفي حين أنه لا توجد أدلة دامغة تثبت أن الفكر غير ممكن بغياب اللغة، فهناك الكثير من الإثباتات على التأثيرات اللغوية على طريقة تفكيرنا بالعالم واختباره. ويؤمن بينكر بقسرية الرابط بين الفكر واللغة، وأن الأفكار بنات لغتها المعبرة عنها. ويثير بذلك جدالاً لا يمكن البت فيه إلا تجريبياً عبر دراسة أكبر قدر ممكن من اللغات. ولا يتيح ذلك مجالاً كبيراً للشك بأن اللغات تتمتع بقيمة لأسباب بعيدة عن العواطف.
تحتل لغات الأقليات إذاً قيمة مهمة، فهل يعني ذلك أن المجتمعات يجب أن تستثمر في دعمها، ليس بالضرورة. قد تفوق قيمة لغات الأقليات قيمة الامتناع عن دعمها، وذلك لسببين يتمثل أولهما في العبء الذي يضعه دعم لغات الأقليات على الشعوب، ويعكس الثاني فوائد تقليص التنوع اللغوي. ففي حين أننا قد نعلي شأن اللغات لأسباب مشابهة لتقديرنا قلاع العصور الوسطى، فإن فارقاً مهماً يكتنف كيفية القيام بالحفاظ على النوعين.
ويتجسد السبب الآخر المقاوم لمبدأ ضرورة الحفاظ على لغات الأقليات، في تشكيلها عائقاً أمام التواصل الناجع. ويبرز السؤال حول ما إذا كان من الأفضل السماح لعدد من اللغات بالاندثار، لإتاحة المجال إلى لغة تواصل عالمية وحيدة مشتركة.
وسيكون من الصعب مع ذلك تطبيق تلك اللغة بعدالة وسلام، ويحفل التاريخ بأمثلة كثيرة حول سياسات الماضي القمعية، فاللغات المنقرضة أو المهددة لم تصبح كذلك بأسلوب لطيف، وباختيار الأجيال المتعاقبة الحرّ بالتحول إلى لغة سائدة، وتاريخ موت اللغات محفوف بالعنف.
في عالمٍ غني باللغات المتعددة، المشبوكة بمختلف الثقافات والسجلات التاريخية التي نجت بمعظمها من براثن سوء المعاملة والاضطهاد المتواصل، والتي يتجدد الاحتفاء بها والدفاع عنها داخل المجتمعات وخارجها. تلك حقيقة، ما إن نفهمها حتى تصبح العودة إلى الوراء من دون التضحية بقدر هائل مما هو مهم وما هو قيّم، مستحيلة.
المادة من إعداد فاتن صبح
اقرأ أيضاً: