لاحظت ليلة أمس سعيداً ازدحام إحدى قنوات الفنون بصوت لوشيانو بافاروتي العظيم، فاكتشفت أنها الذكرى العاشرة لوفاة مغني الأوبرا الأسطوري الذي ولد في 12 تشرين الأول/أوكتوبر 1935 في إيطاليا، وتوفي في 06 أيلول/سبتمبر 2007. وراقبت كعادتي مأخوذاً, كيف يغني هذا التينور (أعلى الأصوات الرجولية في المجال الوسطي للسلم الموسيقي) بصوت يهيمن على كل من حوله دون عناء، كأنه ماء ينساب بسلاسة ليُغرق لاحقاً وبسرعة كل شيء، بل أنه حتى يتلذذ بالغناء كأنه يتناول صحن السباغيتي المفضل لديه، والذي أعدته له أمه، عاملة معمل التبع المُتعبة، في بيتهم الفقير في ضواحي مدينة مودينا شمال إيطاليا، أو يبتلع بنهم البروسكيتا “قطع البندورة بزيت الزيتون والثوم فوق قطع الخيز الساخن” من المخبز الذي يعمل فيه أبوه، وهو يتمشى في طبيعة شمال إيطاليا الساحرة. ذلك الأب الذي يغني الأوبرا لكنه لم ينجح في اتقانها لأنه كان “عصبياً جداً”، كما كل أباء إيطاليا، وربما العالم، من ذلك الجيل الموسوم بالحروب العالمية الطاحنة. وأتخيله طفلاً منحشراً مع عائلته في غرفة صغيرة في ريف إيطاليا الشمالي حيث اضطرت العائلة للانتقال اليها بسبب الحرب العالمية الثانية.
لم يكن حلم بافاروتي حتى عمر التاسعة عشرة أن يصبح مغني تينور، بل كان يحلم بأن يصبح حارس مرمى محترف في فريق كرة قدم، وكان أيضاً على وشك أن يتخذ من التدريس مهنة دائمة، لكنه بعد فترة قرر المتابعة، بشىء من التسليم أكثر من الرغبة على ما يبدو، بدروس غناء التينور في مولينا، متأثراً بحب أباه للأوبرا بلا شك، ومستعيناً برصيده الموسيقي، وبدأ يشارك في حفلات موسيقية بدون أجر، دون أن ينجح حتى ذلك الحين في إثبات إسمه على ساحة الغناء الأوبرالي.
ومن ذلك الشاب متعثر الخطى، والذي قرر يوماً ما هجر الغناء بسبب “عقدة” أصابت حباله الصوتية في حفل حيّ وحولته إلى كارثة، إلى تلك القامة الهائلة التي اجتمعت لاحقاً عام 1990 في “The Three Tenors” مع مغنيي التينور الإسبانيين الشهيرين بلاسيدو دومينغو “Plácido Domingo “، وجوزيه كاريراس ” José Carreras“، ليغني أولئك الثلاثة العظام معاً مقتطفات من روائع الأوبرا في ليلة نهائي كأس العالم لكرة القدم في 7 تموز/يوليو من ذاك العام. ولتباع اسطوانة الحفل لاحقاً بأرقام شبه خيالية تخطت كل مبيعات موسيقا البوب (الموسيقا الرائجة) في ذلك الحين، لتسجل أعلى مبيعات لإسطوانة موسيقا كلاسيكية في التاريخ، وسط ذهول صُنّاع الموسيقا في التسعينيات. بعدها أصبح بافاروتي طائر الشهرة بفعل تلك الليلة، ليمسي بعد زمن قصير أشهر مغني تينور في العالم. وأسس بعد ذلك الكثير من المؤسسات الخيرية والفنية المعنية بمساعدة اللاجئين والقضايا الإنسانية والتشجيع على الفنون، كما فعل في “مركز بافاروتي للموسيقا” في البوسنة. وأشهر نشاطاته الإنسانية كانت حفلات “بافاروتي وأصدقائه” “Pavarotti and Friends”، والتي قدم من خلالها حفلات موسيقية سنوبة في مدينته مودينا، بالمشاركة مع نجوم غناء عالميين من أنماط موسيقية مختلفة. حيث كان يذهب ريع تلك الحفلات لتمويل مشاريع تدعم اللاجئين حول العالم.
توفي بافاروتي بسبب مرض السرطان عن عمر 71 عاماً، قبل أن بتمكن من إنهاء جولته الوداعية قبل اعتزاله، مات في مدينته مودينا. أُحب أن أتصور أنه مات بسلام، متذكراً طعم سباغيتي أمه، وبندورة بروسكيتا أباه.
مواضيع ذات صلة: