عمرو حمزاوي
إزاء الصعود الانتخابي غير المسبوق لليمين المتطرف ممثلاً في حركة “البديل لألمانيا”، وبسبب تراجع التأييد الشعبي للحزب المسيحي الديمقراطي (وشريكه الإقليمي في ولاية بافاريا الجنوبية، الحزب المسيحي الاجتماعي) الذي تتصدره المستشارة أنغيلا ميركل، ولأن أحزاب اليسار التقليدي تمر بعد تكرر النتائج الانتخابية السيئة بأزمة طاحنة تطال الحزب الاشتراكي الديمقراطي الذي يشارك في ائتلاف ميركل الحاكم وحزب اليسار الذي يخسر حاليًا حضوره المؤثر في برلمانات الولايات الشرقية؛ لم يعد ممكنا إنكار مرور ألمانيا بلحظة عدم استقرار سياسي ليست بالهامشية.
1 ـ على عكس بلدان أوروبية أخرى تعاني من تراجعات اقتصادية حادة وتنهار حكوماتها المنتخبة على وقع غياب الرضى الشعبي، يتواصل الأداء القوي للاقتصاد الألماني ويترجم نفسه في معدلات بطالة منخفضة وموازنة فيدرالية لا استدانة واسعة بها وميل ميزان العلاقات التجارية مع البلدان الكبرى باتجاه ألمانيا (باستثناء العلاقات التجارية مع الصين). لا يكمن، إذًا، تفسير الصعود الراهن لليمين المتطرف أو أزمة الأحزاب اليمينية واليسارية التقليدية في العوامل الاقتصادية.
2 ـ يتناقض ذلك مع ما سبق وشهده المجتمع الألماني من صعود لليمين المتطرف في تسعينيات القرن العشرين، أي عقب انهيار سور برلين وإنجاز الوحدة بين الشرق والغرب.
آنذاك ارتبط الأمر بالمعاناة الاقتصادية والاجتماعية في الولايات الشرقية التي ارتفعت بها معدلات البطالة واعتماد السكان على الإعانات العامة، واستغل اليمين المتطرف ظرف الأزمة للوصول إلى برلمانات بعض الولايات واستغلته أيضا بعض الحركات النازية الجديدة للاعتداء على الأجانب وطالبي اللجوء والمقيمين ذوي الأصول الأجنبية.
3 ـ بينما تركز صعودهم في تسعينيات القرن العشرين جغرافيًا في الولايات الشرقية، تنتشر حاليا أحزاب وحركات اليمين المتطرف في عموم ألمانيا ولا تجد صعوبة في الفوز بأصواتٍ انتخابية تضمن تمثيلها في برلمانات بعض الولايات الغربية.
4 ـ ترتكز أجندة اليمين المتطرف إلى خطابين للكراهية، كراهية الغريب وكراهية أوروبا. أما كراهية الغريب فتتجه إلى مئات آلاف اللاجئين وملايين المقيمين ذوي الأصول الأجنبية، وتروج بين الناس للخوف منهم على الرخاء الاقتصادي والسلام الاجتماعي والهوية الثقافية في ألمانيا.
من جهة أخرى، ترتبط كراهية أوروبا برفض السياسات الاقتصادية والمالية والقانونية للاتحاد الأوروبي التي يرونها تلزم ألمانيا بإنقاذ اليونان وبلدان أخرى من أزمات متتالية وتفتح سوق العمل الألماني أمام عمالة رخيصة من وسط وشرق أوروبا تضر بأجور الألمان. ثم يترجم اليمين المتطرف خطابي الكراهية إلى مطالبة مباشرة بترحيل اللاجئين وإغلاق الأبواب أمام المهاجرين، وإلى تبني لمقولات الانسحاب من الاتحاد الأوروبي والتوقف عن الإنفاق على «الكسالى» في أوروبا.
5 ـ موضوعيًا، يتجاهل خطاب الكراهية ضد اللاجئين والمقيمين ذوي الأصول الأجنبية القدرة الاقتصادية والاجتماعية لألمانيا على استيعاب لاجئين لم يقترب عددهم الإجمالي أبدًا من الملايين الذين يتوزعون على بلدان كتركيا ولبنان والأردن وغيرها، وينكر كذلك الإسهام الإيجابي لملايين الأجانب الذين يشاركون في صناعة التفوق الألماني ويقدمون نموذجًا لألمانيا جديدة متنوعة ومنفتحة على العالم. موضوعيًا، يتجاهل خطاب الكراهية ضد أوروبا الاستفادة الاقتصادية والتجارية الكبرى لألمانيا من الاتحاد الأوروبي والتي تدركها بوضوح نخب السياسة ومجتمع الأعمال مثلما تدرك خطورة انهيار الاتحاد (من هنا المعارضة الكاسحة بين الأحزاب التقليدية في ألمانيا لاحتمالية خروج بريطانيا من الاتحاد ودعوتهم البريطانيين إلى التصويت في استفتاء «البقاء أو الخروج» لتفضيل أوروبا.
6 ـ يتحمل يمين الوسط في ألمانيا ممثلاً في الحزب المسيحي الديمقراطي والحزب المسيحي الاجتماعي والحزب الديمقراطي الحر العبء السياسي المباشر لصعود اليمين المتطرف. من جهة، تتراجع بانتظام نسبة الأصوات الانتخابية التي يستحوذ عليها يمين الوسط – لم ينجح على سبيل المثال الحزب الديمقراطي الحر في الوصول إلى عدد من برلمانات الولايات التي أجريت بها الانتخابات مؤخرًا. من جهة أخرى، تحت خطابات الكراهية ومقولات الخوف على ألمانيا التي ينشرها اليمين المتطرف تنحرف الأجندات السياسية ليمين الوسط تدريجيًا باتجاه أكثر تشددًا وتخرج من بين صفوفها أصوات تطالب أيضًا بترحيل اللاجئين وإغلاق أبواب الهجرة والامتناع عن «الإنفاق» على اليونان وغيرها من بلدان أوروبا المأزومة.
7 ـ تتراجع معدلات التأييد الشعبي للمستشارة ميركل، فيسفر ذلك عن تكرر الانتقادات الموجهة لسياساتها بشأن استقبال اللاجئين من داخل حزبها وشريكه الإقليمي المسيحي الاجتماعي،
ثم تغير السيدة المستشارة من سياساتها وتضغط لترحيل بعض اللاجئين والإغلاق النسبي لأبواب الهجرة، غير أن المنحنى الهابط لشعبيتها يستمر وتستمر هي لغياب بديل مقنع لها.
8 ـ يتحمل اليسار التقليدي ممثلاً في الحزب الاشتراكي الديمقراطي وحزب اليسار ثمنًا فادحًا لصعود اليمين المتطرف، ولرفض اليسار مجاراة خطابات الكراهية ومقولات الخوف على ألمانيا. انتخابيًا، تنجرف قطاعات مهنية وعمالية ومجموعات سكانية محدودة الدخل إلى التصويت في الانتخابات لليمين المتطرف بعد أن استمرت لعقود طويلة على ولائها لليسار.
9 ـ ينجو فقط من مقصلة صعود اليمين المتطرف حزب الخضر الذي يحصد تأييد الشباب والعديد من سكان المدن الكوزموبوليتانية (كبرلين) بسبب أجندته القاطعة في تقدميتها الليبرالية المدافعة عن الحقوق والحريات والقيم الإنسانية وواقعية طرحه الاقتصادي الذي يعد به من الرؤى اليسارية الكثير.
10 ـ يظل الأمل في تجاوز ألمانيا للحظة عدم الاستقرار السياسي وابتعادها عن التورط في الاستسلام لغوغائية وعنصرية اليمين المتطرف مرهونا باستعادة يمين الوسط لتوازنه وتحقيقه نجاحات انتخابية سريعة، وتمكن اليسار التقليدي واليسار الجديد ممثلا في حزب الخضر من مواجهة خطابات الكراهية ومقولات الخوف بخطاب إبحابي يقنع بأولوية ألمانيا المتنوعة والمتقدمة على أي تصور رجعي لها. يظل الأمل مرهونًا بأدوات المراجعة والتصحيح في الديمقراطية الليبرالية، وبالعقلانية التي تجد دومًا طريقها إلى صناديق الاقتراع وإن تأخرت لبعض الوقت.
نقلاً عن القدس العربي