سيارات محترقة وكتابات غرافيتي يمينية متطرفة ونوافذ مكسرة، منذ أشهر تنشر سلسلة من الاعتداءات الهلع بين الناس في حي نويكولن ببرلين، أما الآثار الموجودة فتقود إلى أوساط الحزب القومي الألماني المتطرف.
بالتأكيد ليس بإمكان فرات كوتشاك تحديد سبب إيقاظه من النوم في ذلك الصباح من شهر فبراير/شباط. هل يعود ذلك لتحطم زجاج سيارته أم إلى لهيب النيران التي كانت تلتهم جدران البيت الذي كان ينام فيه ووالديه. ولكن لو لم يستيقظ، وهو متأكد من ذلك، لما كان اليوم موجودا هنا، لأنه لم ينقص الكثير ليحترق البيت برمته إلى جانب السيارة. كوتشاك الذي يحسن الحديث وينحدر أبواه من تركيا قفز إلى النافذة وشاهد كيف كانت السيارة تحترق بجانب البيت. انطلاقا من تلك اللحظة بدأ يصرخ لإيقاظ والديه، وجرى إلى الخارج لإطفاء النيران. “عرفت فورا أن ذلك كان اعتداء يمينيا”، يقول كوتشاك بحزم.
سلسلة اعتداءات بالحرق
كوتشاك الذي يعمل في مجال التسويق لجامعة خاصة في برلين، وينشط لصالح حزب اليسار على الصعيد المحلي في حي أو ضاحية نويكولن مقتنع بالتالي من أن الاعتداء بالحرق ليس في الوقت الراهن سوى الأحدث ضمن سلسلة من الاعتداءات في الأشهر الأخيرة في الحي المذكور. وفي الليلة نفسها احترقت سيارة رجل يملك مكتبة للكتب اليسارية في الحي المذكور.
هل هذا هجوم على تعدد الثقافات؟
في الحانات والمقاهي والمطاعم بحي نويكولن يشكل الطلبة، وسكان قدامى، وآخرون جدد من جميع أنحاء العالم وألمان ينحدر آباؤهم من تركيا والشرق الأوسط خليطا يسميه الكثيرون “تعدد الثقافات”.
وفي الوقت الذي يأتي فيه المزيد من السياح إلى الحي، فإن آخرين لا يروق لهم كثيرا المشهد المزركش له، فمنذ 2016 يتعرض للحرق أعدادا متزايدة من السيارات الخاصة بأشخاص ينشطون ضد اليمين ومن أجل اللاجئين، كما تتعرض نوافذ للكسر، وتتم كتابة تهديدات على جدران البيوت مثل “خنزير أحمر” أو “أنت أيها الجرذ اليساري”، كما تُظهر صور حصلت عليها DW.
وتفيد معطيات منظمة ريتشآوت/ ReachOut غير الحكومية التي تساعد ضحايا اليمين المتطرف والعنصرية ومعاداة السامية أن حي نويكولن شهد 38 اعتداء في عام 2016 مقابل 36 في عام 2017. ومنذ بداية مارس حثت جمعية مجلس الحي الشرطة على تصنيف تلك الاعتداءات بأنها “إرهابية”. ولكن حتى بدون هذا التصنيف فإن رسالة الاعتداءات واضحة: وهي زرع الرعب في قلوب جميع من ينشطون ضد اليمين ومن يعملون لخدمة اللاجئين ويريدون نويكولن متعدد الثقافات.
وفرات كوتشاك هو من بين الناس الذين لم يكونوا مفاجئين عندما حصل الاعتداء كما يقول مضيفا: ” عندما حلت موجة الاعتداءات قلت في نفسي متى يأتي دوري؟”، لأن كوتشاك ينشط في السياسة على الصعيد المحلي وشارك في تعبئة لقاء لقوى يسارية في نويكولن. وعلى فيسبوك ينشر صورا تحذر من التفكير النازي.
من يقف وراء الاعتداءات؟
من يتحدث مع ضحايا ونشطاء يصطدم بسرعة باسمين من وسط الحزب القومي الألماني اليميني المتطرف في حي نويكولن، لأن الجناة، كما هو الإجماع يعرفون جيدا الحي، ويتجسسون على ضحاياهم ويعرفون من ينشط على مستوى السياسة المحلية.
والحزب القومي اليميني المتطرف بجناحه المستعد تقليديا لممارسة العنف لم يحقق نسبة خمسة في المائة من الأصوات في الانتخابات الأخيرة وفشل بذلك في دخول البرلمان. وقد فشل التحرك أوائل 2017 من أجل حظر الحزب أمام المحكمة الدستورية. من ناحية أكد القضاة في حكمهم على الأهداف المعادية للدستور لدى الحزب، لكنهم من ناحية أخرى عللوا قرارهم بأن الحزب تنقصه “القوة” للقضاء فعلا على الديمقراطية. وهذا يعني أنه ليس بتلك القوة التي تستدعي حظره. ولا يمكن البرهنة على وجود “توجه مبدئي” لدى الحزب الوطني الألماني لفرض أهدافه بالعنف رغم قيامه بالتخويف والتهديدات.
ألمانيا “يجب أن تبقى ألمانية”
في المكتب القاتم للحزب القومي الألماني اليميني في برلين يقدم سيباستيان شميتكه علبة من عصير التفاح مكتوب عليها “بالطبع ألماني”. يقول شميتكه الذي يوحي للنظرة الأولى أنه يعمل في صفوف الحزب الليبرالي وليس الوطني اليميني المتطرف بأن نوافذ المكتب مغلقة في الغالب بسبب الهجمات الكثيرة “لليساريين المتطرفين” ضد البناية التي يرفرف فوق مدخلها علم الحزب.
وشميتكه الزعيم السابق للحزب القومي اليميني في برلين يظهر أمام الكاميرات مهذب جدا ومتمرس في الخطابة ومتمرن على نفي أية اتهامات بالعنف. فهو رجل يعرف ما الذي يحق له قوله أمام الميكرفون حتى لا يتم توريطه وحزبه في أي تهمة.
ومشهد نويكولن لا يعجبه، ويتحدث عن “طابع الاغتراب” لبعض الأحياء في برلين. وألمانيا “يجب أن تبقى ألمانية” على حد قوله، وللإضافة يوضح في آن واحد أن الحزب القومي الألماني ليس له بالطبع تحفظات ضد مالك محل الوجبات السريعة التركي. فقط “المجرمون الأجانب” يجب ترحيلهم وأن العنف لا يشكل خيارا لحزبه. وهو لا يريد استبعاد أن شخصا من أوساط حزبه شارك في الاعتداءات:” أنا لا يمكن لي الجزم في الأمر لصالح 5000 شخص”. وقال بأنه في حال تورط شخص من الحزب في العنف، يجب التفكير في فصله من العضوية. وإلى حد الآن لم يتم فصل أي شخص، كما يعترف شميتكه الذي تم الادعاء عليه في 2013 بسبب ممارسة العنف ضد متظاهرة معادية ـ وتم وقف القضية مقابل دفع غرامة مالية. وفي السنوات الماضية تلقى آخرون في قيادة الحزب عقوبات للتسبب في جروح بليغة وأعمال تحريض.
وفي فبراير وبعيد الاعتداء بالحرق على سيارة كوتشاك فتشت الشرطة الجنائية في برلين منازل مشتبه بهما، والتحقيقات مازالت سارية، ومنذ ذلك الحين توقفت الاعتداءات.
“الأهم هو أن لا تتدمر نفسيا”
لكن الكثيرين يخشون من أن يتعلق الأمر فقط باستراحة قصيرة، إذ سبق أن حصلت في 2011 و 2012 موجة اعتداءات يمينية في برلين تبعتها مرحلة هدوء نسبي بعدما دخل السجن عضو في الحزب القومي الألماني يتردد اسمه الآن. وبعد إطلاق سراحه في 2016 تم مجددا إحراق سيارات في نويكولن.
وأثناء الحديث مع ضحايا ونشطاء يُذكر في كل مرة اسم بوراك بكتاس البالغ من العمر 22 عاما الذي تم قتله رميا بالرصاص على قارعة الطريق قبل ستة أعوام، والبعض يقول بأنها كانت عملية تصفيته منظمة. وإلى حد الآن لم تعثر الشرطة على الجاني، ورغم أنه لا توجد علاقة مباشرة لذلك مع سلسلة الاعتداءات الأخرى، يثير معنيون حالة القتل بأنها دليل على أنه لا ينبغي التقليل من شأن اليمين المتطرف في برلين.
وهكذا يعتقد أيضا فرات كوتشاك أن الجناة في نويكولن مستعدون لفعل الكثير، وربما لفعل كل شيء. “فمن أضرم النار في الثالثة صباحا مباشرة بجانب بيت، يدرك مبدئيا أن البيت سيشتعل”. ومنذ الاعتداء لا ينام فرات بشكل جيد وهو يترك النافذة مفتوحة وينتابه الذعر عند سماع أي صوت. كما يركض إليها وينظر فيما إذا كانت النيران تضيء من جديد ظلمة الليل.
قبل مدة أخذه والده جانبا وقال له:” ما الذي بإمكانهم فعله؟ سيضرمون النار في سيارة أخرى. وكل شيء يشمله التأمين. الأهم هو أن لا تتدمر نفسيا”. بالطبع والده على حق، يقول كوتشاك، لكن ليس من السهل نسيان الخوف.
المقال منشور على دويتشة فيله / ناومي كونراد/ م.أ.م
اقرأ أيضاً: