يبدو مفهوم الحفر التاريخي، كمفهوم نقيض للطمر التاريخي، أحد أهم المفاهيم التي بذلت الحركات النسوية الحديثة الكثير من الجهد لإحيائها، وذلك بهدى العديد من العلوم الإنسانية.
الطمر التاريخي الذي مارسته الثقافة الذكورية على مرّ الزمان فيما يخص عمل النساء ووجودهن الفاعل وحضورهنّ في مجتمعاتهن، بمعنى محاولات إخفاء ذلك وتغييبه وفي الكثير من الأحيان تشويهه.
فقد حاولت الحركات النسوية كشف الغبن الذي وقع على الهامش (سواء أكان الهامش الجنساني أم العرقي أم الإنثي أم الطائفي) ومنه النساء، لإعادة الاعتبار للمهمشين، وإماطة اللثام عن الحقائق التي مرّت عليها قرون طويلة وهي مستورة بحجب السيطرة البطريركية بكافة أشكالها.
من خلال تلك الجهود تم اكتشاف الكثير من عمليات الطمر الثقافي التي وئدت النساء تحتها لآلاف السنين، كانت تلك الجهود متنوعة من اكتشافات أنثروبولوجية إلى أريكولوجية إلى سيسيوثقافية، إن صح التعبير، إلى لسانية/ لغوية، وغير ذلك من الميادين. بعض تلك المحاولات اكتفت، على أهمية ذلك، بالحفر في الوقائع التاريخية الصرفة، وإعادة إحيائها من جديد برؤية جديدة.
على سبيل المثال، لم يمض زمن طويل مذ أعاد التاريخ الحديث تسليط الضوء على ما اقترفته محاكم التفتيش الأوروبية في القرن السادس عشر، حيث تركّز كل ثقل العداء المنظم للكنيسة المسيحية ضد النساء. وذلك بعد وثيقة الماليفيكاروم أو (مطرقة السحرة)، وهي وثيقة كتبها البابا “إنوسنت الثامن” في مرسوم بابوي أول ضد الساحرات في العام 1484، وهي وثيقة رسمية لمحكمة التفتيش أعيد طبعها 14 مرة قبل حلول 1520 حين تقول: “كلّ السّحر يأتي من المتعة الجسدية، الموجودة في شهوانية المرأة..”. إثر هذه الوثيقة أعدمت ملايين النساء في القرون الوسطى بتهمة السحر! وكان من الممكن أن تتهم أية طبيبة أو عالمة أو كاتبة أو اية امرأة مغايرة قليلاً بالسحر!
وفي خطوة سباقة تم إلقاء الضوء على حكاية العالمة النمساوية “ليزا ميتنز” التي اكتشفت مع شريكها العالم الألماني “هايهن” نظرية انشطار اليورانيوم الشهيرة: (الطاقة= الكتلة× مربع سرعة الضوء). وبعد سنوات من ذلك وفي العام 1944 ستفاجأ “ليزا ميتنز”، وهي في منفاها الذي لم تعد منه أبداً، بحصول شريكها وحده على جائزة نوبل للكيمياء عن اكتشافهما المشترك، ودون ذكر اسمها بالمطلق! ومازالت الجائزة حتى اليوم مسجلة باسمه فقط.
تلك الجهود المبذولة من قبل النسويين والنسويات ساهمت كذلك مساهمات فعالة في فضح الخلفيات والدلالات البطريركية للأمثال والقصص والحكايات الشعبية التي بنيت عليهما الخلفية الثقافية والاجتماعية للشعوب، وتلك الذائقة الأدبية التي توّلدها تتغلغل في لاوعي الأطفال الذين سيصبحون رجالاً ونساء في المستقبل. فبدأت في العقدين الأخيرين من القرن العشرين مثلاً حركة كبيرة لإعادة كتابة القصص والحكايات الشعبية برؤية نسوية جديدة، تغيّر من صورة المرأة السلبية والمكرّسة قبلاً في تلك الحكايات.
كما ساهمت الحركات النسوية في إماطة اللثام عن الكثير من الآليات اللغوية والدلالات الذكورية المكرّسة في اللغة، وعن الكثير من أسماء المبدعات المغمورات في أنحاء العالم، اللواتي عملت الحركات البطريركية على تجريدهن من حقهن في الإبداع وعدم الاعتراف بهن وبإنجازاتهن.
إثر تلك الجهود صعد في إنكلترا، على سبيل المثال، مصطلح الرواية النسائية (حين اكتشف بين عام 1830 و1940 أكثر من 400 رواية لـ300 كاتبة إنكليزية). فيما تركز عمل النسويات والنسويين الأنثروبولوجيين، من أمثال “جيردا ليرنر” و”بربارة ووكر” وغيرهن، على نبش الأساطير والمدونات القديمة لإعادة النظر في كثير من المسلمات التاريخية التي لعبت بها السلطات البطريركية المتعاقبة في التاريخن مثل ما حدث مع إعادة إحياء أسطورة ليليت وكيفية تشويه صورتهان وكذلك أسطورة بوبو ودلالات كل منهما.
أما الإريكولوجيات والأريكولوجيين النسويين، من أمثال “مارغريت موراي” و”وينيفريد ميليوس لوبل” و”ماريا غيمبوتاس”، فقد عملن من خلال الصور والنقوش والرسوم والتماثيل على كشف الآليات المتشابهة في قمع طاقات المرأة وتحييدها عن المركز والفاعلية.
اليوم نستطيع أن نلاحظ اهتماماً كبيراً بهذا النوع من الميثولوجيات المقارنة، لأن المكتشفات في العقود الأخيرة تضخمت وتعززت دقتها مثل عمل “ماريا غيمبوتاس” في المساحة التي أسمتها أوروبا القديمة، وعمل “جيمس ميلقار” في شاتال هيوك في الأناضول، والمكتشفات في ليبنسكي فير في سيبيريا، والعمل المستمر في كريت، والكثير الكثير غير ذلك.
خاص أبواب
اقرأ/ي أيضاً: