شاهد ناجي. باحث لبناني مقيم في ألمانيا
في قراءةٍ سريعة للأحداث التي تجري في لبنان لا بد من التوقف عند نقطة أساسية فاجأت العالم بأسره وأحرجت النظام اللبناني القائم حالياً، ألا وهي إجماع المعتصمين على مبدأ الخروج عن الدائرة الطائفية الضيقة التي لطالما استعملها السياسيون اللبنانيون للتلويح بالويلات وتذكير الشعب بهول الحرب الأهلية إن هم لم يصطفوا إلى جوار زعيم الطائفة ويغضبون عند المساس به من أي شخصٍ كان من طائفةٍ أخرى.
هذه النقلة النوعية في الوعي السياسي عند اللبنانيين لم تكن وليدةَ ليلةٍ وضحاها. ولم يكن ما رأيناه في الأيام القليلة الماضية من انتفاضة الشعب اللبناني بأسره وتجمهره في الساحات العامة من شماله إلى جنوبه، وتوحيد المطالب من رحيل الحكومة وإجراء انتخابات نيابية مبكرة واستقالة رئيس الجمهورية، إلا نتيجة سياسات اتبعتها الطبقة السياسية على مدى عقود واتكأت على التلويح بشبح الانقسام الطائفي الذي قد يؤدي إلى مزيد من تدهور الأحوال وربما إشعال الحرب الطائفية من جديد.
إن ما غاب عن بال هذه الطبقة هو أن الأدوات الكلاسيكية التي استخدمها فيما مضى من تهديد الناس بالانقسام الطائفي، واستعمال معلومات مغلوطة في قلب الحقائق وتخويف أبناء طائفةٍ من أخرى، لم تعد تجدِ نفعاً. فما حصل في الدول العربية سابقاً، أي الربيع العربي، أضفى بعداً آخر على عملية التمرد السياسي.
إن دخول التكنولوجيا والمعلوماتية والإنترنت في الحياة اليومية للمواطن اللبناني والعربي قد أضفى نقلةً نوعية على قدرة الفهم لدى الجيل الجديد، أو كل من يستعمل الهواتف الذكية، من حيث استسقاء المصادر والبحث عن المعلومة الصحيحة. ولا شك أن هذا الترابط بين انتشار استعمال الهواتف الذكية وانحسار الصحافة المطبوعة قد أسهم في خلق حالةٍ من الارتباك عند الكثيرين خلال السنوات الأخيرة في كيفية الحصول على المعلومات أو لدى الطبقة السياسية في كيفية إشاعة معلومات مغلوطة حيث أن المصدر الوحيد للمعلومات كان من قبل هو التلفزيون والجرائد.
أما الآن وقد أصبحت سرعة الحصول على المعلومة الصحيحة بمتناول الجميع عبر الهواتف الذكية ومحرك البحث جوجل وما إلى هنالك، فإن هذا الواقع الذي فرض نفسه في الحياة اليومية للمواطن العربي، أسهم في خلق نقلة نوعية، ولو جزئية عند البعض، في الوعي السياسي وإعادة التفكير بالمسلَّمات السياسية والاجتماعية.
وقد رأينا من قبل ما حصل من تعتيم إعلامي دائم من المحطات الرسمية والصحافة في كل الدول العربية التي كان للربيع العربي حصةً منها. كما رأينا الخطاب السلطوي نفسه في كل من سوريا ومصر وليبا واليمن مثلاً، والذي ارتكز على تحميل المعارضين أو المنتفضين مسؤولية ما قد يحصل في البلاد، واتهامهم بالعمالة للخارج، ونعتهم بالطابور الخامس “إذ أن أبناء الوطن الحقيقيون لا ينتفضون”، أو كما أسماهم القذافي في خطابه الشهير بالجرذان.
أما الناس فقد كانت تتبادل المعلومات عبر الهواتف الذكية، والتي لطالما حاولت الأنظمة حجب مواقع التواصل الاجتماعي كي تمنع الناس من فهم ما جرى أو يجري في بلدهم. ومن حسن حظ الناس أن الأنظمة ولدرجة ترديها فيما يتعلق بالخدمات لم تستطع حجب المواقع أمام أنظمة الـVPN وغيرها، مما أتاح التواصل وفضح ممارسات السلطة أمام العالم كله.
ولكن بالعودة لما يحصل الآن في لبنان ، فإن هذه الانتفاضة لها وقع آخر وبعدٌ آخر. فالشعب لم ينتفض ضد طاغيةٍ محدد وأتباعه ونظامه، بل انتفض ضد طبقةٍ سياسية تنتهج التوريث السياسي وتتجاهل كل الأعراف السياسية التي تحكم بمبدأ أن السياسي يعمل لمصلحة الشعب.
إن الانتفاضة الحالية، أو “الثورة” كما يحلو لبعض اللبنانيين تسميتها، لها حيثيات مشتركة مع ما حصل في الدول العربية التي سبقتها. فهنا لا رؤيا واضحة حتى الآن للبديل، إنما المطلوب ذهاب المنظومة الحالية. ولكن ما يميزها ربما هو أنها أتت بعد حربٍ أهلية ضروس امتدت خمسة عشر عاماً ولا رغبة للمواطن اللبناني الحالي في حمل السلاح، فالخدعة التي استخدمها السياسيون من كل الطوائف، لم تعد تجدي نفعاً مع المواطن الشمالي مثلاً الذي عرف أن عدوه هو الطبقة السياسية وليس ابن الجنوب الذي هو من طائفةٍ أخرى. في حين أن ما حصل في الدول العربية الأخرى هو أن هذه الانتفاضة أتت بعد سنواتٍ من القمع وأنتجت بشكل أو بآخر حرباً أهلية أو انفلات أمني.
ويجري الحديث ايضاً أنه لا مصلحة لأي دولةٍ غربية أو شرقية ذات ثقل سياسي في أي انعدام للتوازن السياسي في لبنان . واللافت في الأمر أن الغرب لم يسارع كما حصل في الدول العربية الأخرى (ليبيا مثلاً) لشجب النظام اللبناني القائم، إذ أن كل سياسي لبناني قريب من دولةٍ أو أُخرى كما يعرف الجميع. ولعل ما يستوقفنا بشكلٍ طريف هو أن كل فريق سياسي ألقى المسؤولية على الآخر في التسبب بتعطيل مؤسسات الدولة والفساد والإثراء الغير المشروع وما إلى هنالك من مصطلحات سياسية أكِلَ عليها الدهر وشرب.
الحل الذي يجمع عليه كل من هو خارج الدائرة السياسية الحالية يكمن في تشكيل حكومة تكنوقراط تبدأ أولاً بمحاسبة الفاسدين، وإقرار قانون انتخابات جديد مع إجرائها فوراً والانشغال بإعادة قوننة الدولة وإلغاء الطائفية السياسية التي وحسب الدستور اللبناني الموضوع سنة 1927 هي مؤقتة.
والكل يعلم أنه في لبنان، كما في كل الدول العربية الأخرى، توجد طاقات شابة من خلفية مدنية وذات مستوى تعليمي عالٍ باستطاعتها النهوض بالدولة وقيادة مؤسساتها نحو مستقبلٍ أفضل. إلا أن الرهان الأول والأخير يكمن الآن في قدرة الشارع على الصمود في وجه السلطة وأدواتها وأجهزتها التي لن تنفك لحظة عن التدخل لفض الحراك ومحاولة ضرب المتظاهرين بعضهم ببعض عن طريق إثارات النعرات الطائفية وعدم الانجرار خلف الدعايات التي يستخدمها كل فريق سياسي ضد الآخر.
يبقى أن يرينا الوقت ما إذا كان لبنان ضحيةً للربيع العربي، أو أنموذجاً تهتدي به الشعوب العربية الأخرى في نضالها ضد أنظمتها في كل ما تمثله. فالشعب اللبناني قد نال حصته من الحروب والويلات وآن الأوان أن يستفيق!
اقرأ/ي أيضاً:
لبنان.. ثورةٌ كالحب.. النهاية الحقيقية للحرب الأهلية في قلوب اللبنانيين
“كلهن يعني كلهن”.. ثوار لبنان يطالبون برحيل كل أمراء الحرب والفساد