طارق عزيزة. كاتب سوري من أسرة أبواب
تشهد ألمانيا تنامياً مضطّرداً للتيارات اليمينية الشعبوية التي تتبنّى أفكاراً قوميّة متطرّفة وتكشف صراحةً عن نزعة معادية للأجانب عموماً، وبشكل أكبر للقادمين من بلدان تدين أكثرية سكّانها بالإسلام. الأمر لا يقتصر على ألمانيا، فهذه ظاهرة تكاد تكون عالمية تعود لأسباب متداخلة على مستويات عدّة، منها ما يرتبط بعالم ما بعد الحرب الباردة، حين أدّى تفكّك الاتحاد السوفييتي السابق وسواه من دول الكتلة الشرقية إلى انتعاش مفاهيم مبتسرة وضيقة عن “الهويات الثقافية”، يُعبَّر عنها بخطاب يعلي من شأن “الخصوصيات” القومية والدينية والمذهبية وسواها على حساب القيم الإنسانية الجامعة، في محاولة لمواجهه العولمة. وبدورها، أدت هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر دوراً هائلاً في إطلاق العنان لـ “الإسلاموفوبيا”، وبات من السهل تأسيس حركات ومظمات سياسية ومجتمعية في الغرب يحرّكها الخوف المرضي من “الإسلام”. يُضاف إلى ماسبق تردّي الأحوال المعيشية لفئات متزايدة نتيجة التوحّش الرأسمالي وحاجة الناس إلى إيجاد حلول لهذه المشكلة، وغير ذلك من أسباب يضيق المجال عن تناوله
لعلّ أبرز من يجسّد هذه الظاهرة في ألمانيا اليوم هو حزب “البديل من أجل ألمانيا- Alternative für Deutschland” المعروف اختصاراً بـ AfD والذي تأسس عام 2013، ثمّ استطاع في زمن قياسي أن يصبح واحداً من الأحزاب الرئيسية ذات الثقل الملحوظ في المشهد الانتخابي وتالياً السياسي في ألمانيا وفق ما تبيّنه نتائج الانتخابات بمستوياتها المختلفة، المحلّية والاتّحادية والأوروبية.
ولم تشهد ألمانيا مدّاً شعبوياً مماثلاً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، لا أثناء فترة انقسامها إلى ألمانيتين، شرقية وغربية بين عامي 1949 و 1989، ولا بعد إعادة توحيدها سنة 1990.
عند الحديث عن التطرّف اليميني و الشعبوية يميل بعضهم إلى التمييز بين “اليمين المتطرف” و”اليمين الشعبوي”، حيث يرى أصحاب هذا الرأي أنّ الأول هو “حركة نخبوية تطرح أفكاراً غالباً ما تكون إيديولوجية يصعب على المجتمع التكيف معها” في حين أنّ الأخير “لا تهمه الإيديولوجيا بقدر ما يهمه مخاطبة مشاعر قسم كبير من المجتمع واجتذاب الفئات الموجودة على هوامشه”. غير أنّ “الشعبوية” وإن لم تكن “أيديولوجيا” بذاتها على النحو الذي يعنيه المصطلح، لكنها عبر ميل الشعبوية إلى التبسيط والإختزال وإطلاق الشعارات الكبرى، فضلاً عن الرغبوية والنزعات التبريرية وتقديم الوصفات الجاهزة لمعالجة مشاكل معيّنة، تظهر دوماً في قالب أيديولوجي. وهي ضرب من السلوك والممارسة العملية في السياسة اليومية المباشرة، بغرض استمالة فئات محددة من الجمهور وحشدها حول “الشعبوي”، الذي يعدها بتحقيق مصالحها. وبذلك، فإن أيّاً من الأيديولوجيات يمكن أن توسم بالشعبوية نتيجة أساليب الخطاب والممارسة السياسية لدى أتباعها وممثليها.
وبالتالي، خلافاً للتصنيف السابق بين “يمين متطرّف” و”يمين شعبوي”، فإنّ “حزب البديل” يمزج بين هذين النوعين، حيث يتبنّى بالفعل أفكاراً أيديولوجية، مثال ماينطوي عليه خطاب الحزب من تمييز فجّ بين من “ألمان” من أصول و”ثقافة” ألمانيتين، وبين الألمان من أصول مهاجرة، ولو كانوا أبناء الجيل الثاني أو حتى الثالث من المهاجرين، فهؤلاء مهما فعلوا ليسوا ألماناً بنظر AfD، عدا عن رفضه الصريح وجود الأجانب من لاجئين ومهاجرين. وليس من الصعب تبيّن خيوط نسب تجمع بين أفكار كهذه وبين الأيديولوجية القومية المتطرّفة التي بلغت أقصى أشكال العنصرية العرقية خلال الحكم النازي، وهي حقبة يتبرّأ منها غالبية الألمان، وأورثت معظمَهم “عقدة ذنب” لا يبدو أنّهم تجاوزوا آثارها بالكامل.
من جهة ثانية يحرص الحزب على مخاطبة المشاعر والعواطف لدى فئات واسعة من المجتمع، لاسيّما الأكثر فقراً وتهميشاً. وليس خافياً أنّ نسبتهم تزداد في الولايات الشرقية التي كانت تقع ضمن “جمهورية ألمانية الديمقراطية DDR” قبل الوحدة، حيث يمكن تلمّس حضور بارز له في الأوساط الشعبية ويحصد مرشّحوه نتائجهم الأفضل قياساً ببقيّة الولايات.
وضمن سعيه لاستثارة مشاعر الناخبين ومخاطبة عواطفهم لوحظ في الآونة الأخيرة قيامه بتضمين ملصقاته الدعائية والانتخابية بعض شعارات ما يُعرف في ألمانيا بـ”الثورة السلمية die friedliche revolution “، وهي الحركة الشعبية التي قام بها مواطنو ألمانيا الشرقية عام 1989 وأفضت إلى سقوط النظام القمعي الذي كان يحكمهم باسم الاشتراكية وديكتاتورية البروليتاريا، مثل شعار “نحن الشعب – Wir sind das Volk”. فالحزب يدرك مدى الإحباط الذي أصاب قطاعات واسعة من الألمان الشرقيين بعد الوحدة، نتيجة الصعوبات الاقتصادية التي عانوا منها في ظل نظام رأسمالي لم يألفوه.
ورغم نجاح الحكومة في التغلّب على معظم مشكلات الولايات الشرقية لبعض الوقت، إلا أنّها عادت لتطلّ برأسها مجدّداً في ظلّ تفاقم التفاوت الطبقي في ألمانيا، والخشية من تراجع نمو الاقتصاد الألماني مما سينعكس بالدرجة الأولى على الفئات الأشدّ فقراً. وبحسب تحليل اقتصادي نشره موقع دويتشه فيلله حديثاً، “سيطال الفقر أكثر من خمس المتقاعدين، أي نحو 22 بالمائة بحلول عام 2029 مقابل أقل من 17 بالمائة في الوقت الحالي، ويصل عدد المتقاعدين في ألمانيا إلى أكثر من 20 مليون متقاعد حالياً. وفي حال دخل الاقتصاد في مرحلة الركود فإن عدد العاطلين عن العمل سيرتفع ومعه ستقل دخولهم ورواتبهم التقاعدية”.
معنى ذلك أنّ قاعدة “حزب البديل” مرشّحة للاتساع بالتوازي مع تزايد أعداد الفقراء، لأنّ التصويت له يمثّل أحد أشكال احتجاجهم على الطبقة السياسية الحالية، كما أنه يوهمهم بأنّ حلّ مشكلاتهم سيكون على يديه، مادام يحمّل اللاجئين والمهاجرين المسؤولية عن فقر الفقراء الألمان وتناقص فرص العمل وحتى مشكلة السكن وارتفاع إيجارات الشقق، ومن ثمّ يضع في مقدّمة أولوياته العمل على ترحيل اللاجئين ووقف الهجرة، زاعماً أنّ ذلك سيضع حدّاً لتلك المشاكل.
إنّه خطاب شعبوي بامتياز، قوامه التبسيط والإختزال وتقديم وصفات جاهزة مبسّطة لمعالجة مشاكل بالغة التعقيد، مما يؤدي إلى تحويل الأنظار عن السبب الحقيقي للفقر ممثلاً بالتفاوت الطبقي وانعدام المساواة. فأزمة السكن، مثلاً، لا تتعلّق باللاجئين وإنما سببها الرئيس هو جشع شركات الاستثمار العقاري وخضوع حكومات المدن والولايات لشروطها وتقديم التسهيلات لها، عوضاً عن توفير مساكن اجتماعية بأسعار مناسبة.
لكن، رغم النجاحات التي يحقّقها “البديل” واليمين الشعبوي عموماً، لن تكون طريقه إلى السلطة مفروشة بالورود، فالأحزاب الأخرى تنبّهت لضرورة إعادة النظر في سياساتها وأدائها لمواجهة الخصم الجديد، كما أنّ أعداداً متزايدة من الألمان بدأوا يدركون خطورة هذه “الشعبوية” على قيم الديمقراطية والتعددية والتسامح. فلمن ستكون الغلبة؟
مواضيع ذات صلة:
ملف العدد 46: زلازل في خارطة الأحزاب الألمانية
عن النصف المليء في انتخابات الولايات الشرقية في ألمانيا الاتحادية