ريتا باريش. مدونة سورية متخصصة في مجال المطبخ ومؤسسة مشروع “مطبخ غربة”
بشكل لا إراديّ، ساقتني قدماي بعد انتهاء دوام العمل، في اليوم الأول من رمضان، إلى الشارع الذي يغصّ بمحلات البقالة العربيّة والتركيّة والأفغانيّة.
لم أكن بحاجة إلى شيءٍ على وجه التحديد، ولأَكون أكثر دقةً، كنتُ أبحثُ عمّا هو أكثر من مجرد شراء “ربطة من الخبز وسطل من اللبن” اللذين خرجت بهما من أحد المحال، فيكونا مبرراً لدخولي. كنتُ ودونما وعيٍ منّي، قد انطلقت باحثة عن الانخراط في زحمة المتسوقين ولهفتهم لتأمين احتياجات أسرهم قبل أذان المغرب، كنوعٍ من التقاليد التي تميز شهر رمضان، وأثرٍ قد يمكنني اقتفاؤه في الغربة.
تختلط اللهجات واللغات المحكية بين الناس،والمكتوبة كإعلانات للترويج للمنتجات، يجمعها كلمة واحدة مفهومة للجميع: رامازان، رامادان أو رمضان.
ولكن، ما الذي يدفع كل هؤلاء الناس لإحياء الشهر بهذا الزخم بعيداً عن عائلاتهم وأسرهم في الوطن؟ وكيف يعيشون رمضان في مجتمع لا تسوده احتفالاته ومظاهره؟ وما الذي أصبح يعنيه لهم هنا في الغربة؟
بدأت بسؤال الأشخاص الأقرب إليّ، زميلتي في المكتب: فيليس ألمانية-تركية من الجيل الثاني. طفلة كانت عندما وفد والدها إلى ألمانيا في أوائل السبعينات بغرض العمل. اليوم ما تزال فيليس حريصة على اتباع العادات والممارسات التي ورثتها عن والديها. ومنها صوم رمضان. أسألها:
- ألا يتعبك صيام رمضان والجميع من حولك يمارس حياته بشكل عادي ككل الأيام الأخرى؟”
تقول لي:
- “الأمر ليس بتلك البساطة، من جهتي لا أرى أن ممارسة الناس من حولي لحياتهم الطّبيعية هو أمر عليه بالضرورة أن يحول بيني وبين الصّيام. ولا حتى ساعات الصوم الطوال في صيف أوروبا حتى حلول المغرب مقارنة ببلداننا. إلا أنني لا أخفيك أن الجزء الأصعب بالنسبة لي كان ولا زال الشعور بالوحدة في رمضان. ففي أيام الأسبوع، أجد صعوبة في الصيام والإفطار في المنزل بمفردي، وأنتظر بفارغ الصبر نهاية الأسبوع حيث تجتمع العائلة ونصوم جميعاً ونفطر سويةً في الأجواء الرمضانية التي ألفناها”.
- “إذاً فالأمر مختلف هنا عن تركيا…”
- “أجل، أحياناً آخذ إجازتي السنوية في رمضان لأمضيه في تركيا، التزام الناس بشكل جماعي هناك والحضور الطاغي للتقاليد الرمضانية أنى ذهبتِ، له دور كبير في جعله مناسبة محببة إلى قلوب الجميع ويشجعهم على صوم الأيام الثلاثين يوماً بيوم. أما هنا في ألمانيا، ومع تحرر الصائم من رقابة المجتمع الذي يحاكم ويقيم، وضغط التقاليد المقيّد في كثير من الأحيان، لا يبقى من الصوم سوى جوهره النقي: الرغبة الطوعية في ممارسة الصوم عبادةً وتقرباً، والذكريات الأكثر ألقاً التي نحاول أن نحييها بشكل فردي مع من نحبهم ومن يشاركوننا إياها”.
تسافر فيليس إلى تركيّا بشكلٍ متكرر لتجمع زاداً من التقاليد الرمضانية وتحييها فتبقى حيّة فيها. ولكن ماذا عمّن لا يستطيعون العودة إلى ديارهم، كحال الأغلبية العظمى من السورييّن؟ ماذا يفعلون اليوم؟ وكيف يعيشون رمضان مع اضطرارهم لقضائه بعيداً عن أحبتهم ووطنهم؟
يلاحظ المتابع لوسائل التواصل الاجتماعي، تساؤلات الناس عن الأماكن التي يستطيعون فيها ممارسة التقاليد الرمضانية، فترى شاباً يعرض ما وجده من معلومات على مجموعة فيسبوك للاجئين السوريين في ألمانيا، حول احتفالية رمضانية تركية يتم تنظيمها على أرض مدينة الملاهي في دورتموند، تتشابه في بعض أوجهها مع التقاليد الرمضانية السورية. ويتحسر شاب آخر على وجوده وحيداً، ولا يخفي حنينه لتناول المآكل التي اشتهرت في رمضان واستعداده لتعلم طريقة إعدادها.
في المقابل تنشط سيدتان في تبادل طرق إعداد وصفة المعروك أوالناعم أوالعوامة وهي أصناف كانت تشترى جاهزة من الأسواق ولم يكن أحد يحضرها في البيت. تعلن بعض النسوة عن افتتاحهن لخدمات التوصية على الأطعمة البيتية والتوصيل إلى المنازل بالرغم مما قد يعتري مشاريعهن الصغيرة تلك من مخاطر تتعلق بالتراخيص الصحية للأشخاص والمنشآت وتجهيزها فنياً وصحياً.
بسؤالها عن كيف تعيش شهر رمضان منذ قدومها إلى ألمانيا صيفَ 2015 تقول سميرة (اسم مستعار):
- في السنة الأولى لم أصُم، شعرت بعبثية الصيام هنا، لا أحد يلومني أو يزجرني إذا أفطرت فأنا حرةٌ إلا مما يمليه عليّ ضميري وإرادتي وإيماني، وفي المقابل كنت أشعر بالحزن وآلام الغربة. جربت متابعة المسلسلات الرمضانية عبر اليوتيوب علها تعيد شيئاً من ألق الشهر الذي نحب ولكن بلا فائدة. كان اليوم طويلاً والمغرب يؤذن قبيل الساعة العاشرة بقليل، الحنين إلى الوطن كان يفتك بي.
اليوم، أصبحت أحضّر بعض المآكل وأخزنها في المجمدة قبل حلول رمضان ثم أدعو الأصدقاء والمعارف القلائل إلى الإفطار. كونّا مع الوقت مجتمعاً صغيراً متآلفاً. نخرج أحياناً لتدخين الشيشة بعد المغرب وهذا الأمر خفف من الوحدة. أصبحت أصوم بقدر ما أحتمل. أعلم أن هذا غير صحيح ولكنني أحاول جهدي ولا أبرر تخاذلي. رمضان بالنسبة لي هو أكثر من مجرد شهر للصيام، هو كل العادات والذكريات التي تحضر معه.
في معادلة البحث عن التقاليد، أسرّت لي إحدى الصديقات أنها قصدت وزوجها مطعماً تركياً على الإفطار لعلمها بأن يستقدم مقرئاً ومؤذناً يتلو ما تيسر من سور القرآن الكريم قبل أن يرفع آذان المغرب معلنا أوان الإفطار. كانت الرغبة في سماع صوت الآذان حياً كما كانا يسمعانه على مائدة الإفطار بين الأهل في سوريا هي ما حمسهما للذهاب، غير أن أملهما خاب قليلاً، فالمقام الموسيقي للأذان كان مختلفاً وكان ما شهداه هو محاولة لتقليد واستحضار حالة يصعب جمع عناصرها كاملة وإعادة خلقها في صالة مطعم، فلم تأتِ النتيجة كما كانا يشتهيان.
وكأقرانهم، يعبر الكثيرون من غير المسلمين عن شوقهم وحنينهم لإحياء التقاليد الرمضانية التي كانوا يمارسونها مع أصدقائهم وجيرانهم من المسلمين. ويعدون المآكل الرمضانية ويتبادلون التهاني ورواية الذكريات على مواقع التواصل الاجتماعي
- “رمضان في سوريا كان للكل” تقول كريستين.م على أحد مواقع التواصل الاجتماعي وتشارك في سرد ذكرياتها عن المسحر وأطباق السكب ومدفع رمضان والأطعمة الشهية المنتظرة التي تأتي بقدوم الشهر وترحل برحيله، وتضيف: “نفتقد كثيراً إلى بهجة الأجواء الرمضانية، كان رمضان بالنسبة لي في سوريا كعيد الميلاد هنا في أوروبا، مناسبة وتقليد اجتماعي يعيشه الجميع على اختلاف معتقداتهم”.
اقرأ أيضاً: