شاهد ناجي. باحث أكاديمي وناشط سياسي مقيم في ألمانيا
في خضم مرحلة ما بعد اللجوء وبدء التعامل المرحلي مع البيروقراطية المؤسساتية الألمانية بخصوص تقديم طلب اللجوء والحصول على وضع الإقامة القانوني، يبدأ اللاجئ بطرح السؤال “الذي يؤرق الجميع” ما هو السبيل الأفضل للاندماج في هذا المجتمع؟
ولعل السبيل الأفضل والأسرع للاندماج يبدأ بالنسبة للاجئ من حيث يبدأ للمواطن الألماني نفسه؛ إيجاد عمل والاستقلال التدريجي عن الدعم والمساعدات التي يتلقاها اللاجئ من الدوائر الحكومية مثل الجوب سنتر (Job Center) و(Bundesagentur für Arbeit) الوكالة الفيديرالية للعمل، وفي بلدٍ مثل ألمانيا حيث سوق العمل في طلب دائم لليد العاملة وحيث الاقتصاد في حركة ٍ تصاعديّة، يبدو الاندماج سهلاً ولكنه في حقيقة الأمر أكثر تعقيداً مما نعتقد.
ألمانيا والأتراك.. تجربة اللاإندماج
في بداية ستينيات القرن الماضي كان الاقتصاد الألماني يمر بفترة انتعاش ما بعد الحرب العالمية الثانية لأسباب كان أهمها الدعم الغربي (من محور الحلفاء سابقا)، إلّا أنه وبسبب الحرب أيضاً، كان ما يزال هناك نقص في اليد العاملة وخصوصاً الرخيصة (غير الحائزة على مستوى تعليمي عال).
وفي 30 تشرين الأول 1961، قامت كل من ألمانيا وتركيا بتوقيع اتفاقية استقدام يد عاملة من تركيا إلى ألمانيا. ولكن لم يعلم الكثيرون حينها أن هذه الاتفاقية سيكون من شأنها تغيير النمط الديموغرافي في المجتمع الألماني إلى مدى غير منظور وربما نهائي.
لم تكن تركيا هي الدولة الوحيدة التي وقعت اتفاقية لتزويد ألمانيا باليد العاملة. كان قبلها اليونان وإيطاليا وإسبانيا. وكانت تلك الاتفاقيات مبنية على أساس أن يبقى العامل الوافد سنتين ومن بعدها يعود إلى بلده الأم. لكن هذا لم يحدث للجميع، حيث قرر الكثير من الوافدين الأتراك البقاء في ألمانيا، ولربما أهم أسباب ذلك هو الوضع السياسي غير المستقر في تركيا التي كانت حينها تحت قبضة الحكم العسكري.
كان بقاء الوافدين الأتراك حينها بمثابة مشكلة لم يشأ الألمان الحديث عنها. لربما أحد أهم الأسباب كان الذاكرة غير البعيدة المرتبطة بالحرب العالمية الثانية وتعامل ألمانيا النازية مع اليهود والوصمة التي ستلحق الألمان إلى الأبد.
هذا الارتباك بالتعامل مع تلك المشكلة ارتبط أيضاً بغيابٍ تام لسياسات الاندماج. فتجمع هؤلاء ضمن مناطق معينة، وبدأوا تدريجياً بإنشاء مرافق اقتصادية لهم ولو بشكل بسيط. حيث افتتح الكثيرون محالاً تجارية ومطاعم وبدأوا بالشراء والتعامل فيما بينهم دون الحاجة للذهاب للمحال التجارية الألمانية مثلاً. ولعل أحد أهم أسباب هذه العزلة كان غياب سياسات الاندماج أيضاً فيما يتعلق بالتعليم الأكاديمي وتعلم اللغة الألمانية. ويوجد حتى الآن بعض أبناء هؤلاء الوافدين ممن لا يجيدون اللغة الألمانية.
ولعل خلاصة الملاحظة توصلنا إلى أنه قد تطلب الأمر ما يقارب أربعة أجيال من الوافدين ليبدأ البعض بالتعريف عن نفسه كألماني ويتقن اللغة ويتابع التعليم الجامعي. لقد تم تجاهل موضوع اندماج الوافدين الأتراك وغيرهم من الحكومات الألمانية المتعاقبة، ولربما حتى الوقت الحالي بعد موجة اللجوء التي تدفقت تباعاً إلى ألمانيا منذ نهايات سنة 2015.
إن معطيات وضع اللاجئين الحالي والعلاقة مع سوق العمل يمكن تلخيصها في ثلاثة نقاط:
النقطة الأولى
هي حاجة سوق العمل الألماني الملحة لليد العاملة حيث وحسب الإحصاءات تحتاج ألمانيا لمئتي ألف عامل كي يدخلوا سوق العمل سنوياً من سنة 2015 حتى 2022. طبعاً هذه الأرقام مرتبطة بالتغير الديموغرافي في المجتمع الألماني، ولكن هذا موضوع بحث آخر.
النقطة الثانية
تكمن في الصراع السياسي القائم في ألمانيا؛ إن صعود اليمين الألماني في السنوات الخيرة أتى على حساب موضوع اللاجئين. فقد استخدم اليمين موضوع التوافد على عنصرين: الأول هو بروباغندا الأحزاب اليمينية في أوروبا وأميركا والتي تستخدم فيها اللاجئين في الدعاية السياسية، لتخويف المواطنين من التغيير الديموغرافي والجنوح من الديمقراطية الغربية إلى نظام غير ديمقراطي يفرضه تواجد شريحة كبيرة من الجالية المسلمة في البلد الغربي.
والعنصر الثاني يكمن في الترويج لفكرة أن وجود اللاجئين سيدفع الدولة لاستثمار الكثير من أموال دافعي الضرائب الألمان لتأمين السكن واللبس والمساعدات المادية الشهرية للاجئين، وهذا سيسهم في نقص أموال المساعدات التي يتلقاها العاطلون عن العمل في شرق ألمانيا حيث الوضع الاقتصادي سيء جداً مقارنةً بالغرب، والجدير بالذكر هنا أن جمهور الأحزاب اليمينية يرتكز بالطبع بشكلٍ كبير في مناطق ألمانيا الشرقيّة سابقاً.
النقطة الثالثة
في المعضلة التي تواجه أي شخص لجأ أو حتى انتقل للعيش في ألمانيا هي البيروقراطية؛ حيث يمضي العديد من اللاجئين والوافدين أيضاً وقتهم في انتظار المواعيد في المكاتب الرسمية. إضافةً لتحديات إيجاد فرص العمل المناسبة أو التدريب المهني (Ausbildung)، أو تعديل الشهادات في الدوائر المختصة.
عدا عن الرعاية المقدمة من الجوب سنتر وما يليها من خضوع اللاجئ لما يمليه عليه موظف الجوب سنتر، حيث يحصل في العديد من الأحيان تضارب في الآراء ووجهات النظر فيما يتعلق بدخول سوق العمل والفرص المتاحة.
وفي النهاية يتضح لنا أن تحديات ومعطيات هذا الاندماج الذي يتطلّبه العيش في ألمانيا ما تزال في مرحلة عدم الوضوح وغياب المنهج العلمي لأساليب الاندماج. والجدير بالذكر أن العديد من الدوائر الحكومية ترعى مشاريع بحوث علمية أكاديمية في الكثير من معاهد الأبحاث والجامعات إذ شهدت سنة 2018 ما يقارب 260 مشروع بحث أكاديمي عن اندماج اللاجئين في سوق العمل والمجتمع في أنحاء ألمانيا، في سبيل تكوين فهم ممنهج لعملية اندماج صحية وسليمة.
هذا بالإضافة إلى ما تقوم به مؤسسات المجتمع المدني من عمل اجتماعي وتدريبي مهني لتسهيل الاندماج لعدة فئات من اللاجئين، مما يظهر مدى جدية الحكومة والمجتمع المدني سويةً في التعاطي مع هذه المسألة والسعي لتحسين فرص الاندماج.
اقرأ/ي أيضاً: