بشرى البشوات
البعد هو اتساع المدى. أحاول أن أنظر إلى هذه المدينة بقلب المحب، لا بعينه، بعد خمس سنوات تماما من الإقامة فيها. أنا بعافية قليلا، في مدينة ساحلية، بمحاذاة بحر البلطيق. أنا بعافية قليلًا، هكذا أردد! لم يعني لي البحر شيئًا سوى حزني على أميّ التي لم تشاهده ولو لمرة في حياتها!
وصلت أنا وابنتي طل إلى ألمانيا في بداية ٢٠١٦. كانت طل تبلغ من العمر سنة وسبعة أشهر. كنا وحيدتين تماما في بلد غريب، بارد وبعيد ،مع جهل تام بلغة البلاد الجافة والصعبة. بروحي المتشققة آنذاك كان من الصعب عليّ أن استمر بكدمات إضافية في القلب سببها غياب طفلي الآخر زين الذي كان مازال عالقا في تركيا ومواجع أخرى.
بعد عدة أشهر رتّبت لنا إدارة المخيم الذي نسكن فيه لقاء مع الدكتورة هانّا دودك Hanna Dudek. السيدة Hanna كانت امرأة متقاعدة (٧٦ عاما). عملت Hanna طوال سنوات حياتها المهنية مدّرسة في كلية التربية. بالإضافة إلى ذلك درست علم اللاهوت وعملت في عدة متاحف في مدينة كيل.
Hanna التي ولدت قبل الحرب العالمية الثانية بثلاث سنوات والتي فقدت والدها العسكري في الحرب، ثم فقدت حاسة السمع حين بلغت خمس سنوات بعد سقوط قذيفة بالقرب منها، كانت رفيقتي الأولى في مدينة الأبعاد هذه. Hanna التي قالت لي بأنها قد عاشت أيضا في مخيم للاجئين بعد الحرب ، وعرفت اليتم والفقر وقلة الحيلة.
عقب اللقاء الأول مباشرة سافرت Hanna إلى إيطاليا، لتحضر عرضا فنيا يومها. بعد مغادرتها مباشرة تقاذفتني أفكار عديدة حول هذه المرأة القصيرة ذات الشعر الرمادي القصير. و التي تحدثت إلي قبل قليلة بلغة إنكليزية مفهومة وواضحة ، ثم رتبنا فيما بعد للقاء ثان جاء لاحقا.
مضت Hanna معنا حتى الآن خطوة بخطوة، من طريق لآخر، من بوابة موصدة إلى أخرى مشرعة للضوء والأمل.حنا كما أصبحت أناديها كانت أجمل هدايانا.
دقيقة وصارمة ومتحكمة بمشاعرها
أخذت(حنا) كما صرت أناديها بعد ذلك بيدي وشدّت عليها بكل ما لدى الألمان من دقة وتنظيم ونشاط. تنقلت معي بين أروقة المكاتب والدوائر الرسمية دائرة الأجانب، مكتب رياض الأطفال ، محامي اللجوء بين عيادات الأطباء. وإلى مقاه صغيرة نشرب قهوتنا السوداء بعد يوم شاق، لا أفطن أبدًا إلى الفرق الشاسع للسنوات بيننا. لا أفطن إلى فرق اللغة والتاريخ والبيئة التي جاءت منها كل منّا.
كانت حنا تنتصب أمامي كل صباح بدقة صارمة. وبكلمات محددة ومباشرة تنقلني من عالمي البائس إلى واقع عليّ أن أذهب إليه بكل شراسة وحزم. كانت سندًا حقيقيًا وصلبا حين تخلى عنا العالم.
المرأة التي لم تنجب في يوم من الأيام، التي لم تعرف معنى حقيقا للأمّومة، مدّت لقلبي جسرا طويلا نحو الضوء. هي التي استنجدت بها حين لم أستطع أن أجد مكانا لطفلتي في روضة الأطفال.هي Hanna المرأة التي وقفت أمامي وصاحت بي بصوت حاد وعال: “خذي طفليّك بيدك وتحنطي هنا” أمام مكتب الطفولة حتى تجد لك الموظفة مكانا لهما. وهي التي صرخت في وجه الموظف في شركة البيوت حين تململ مني رافضا العرض الذي تقدمت به للحصول على شقة تأوينا.
كانت قوية مرتبة ودقيقة، تُظهر لنا مشاعرها في وقتها المناسب ( كنتُ أجد غرابة في ذلك). وهكذا مضت معنا حتى الآن خطوة بخطوة، من طريق لآخر، من بوابة موصدة إلى أخرى مشرعة للضوء والأمل.
بحبّ الآن، بحنوّ وأمومة لم تمارسها سابقا.
اقرأ/ي ايضا: سيدات سوريات ينجحن في إقامة وإدارة مشاريعهن في ألمانيا.. “سبيل”
طل الآن في السابعة والنصف من عمرها وحنا في الثمانين وأنا بينهما. لا أشعر بقيمة هذه المدينة إلا وهذه المرأة فيها. لا أقوى على بردها وبعدها ومجاورتها للمحيط إلا لأن هذه المرأة هنا.
في الصيف الماضي حملتنا معها إلى شقتها في برلين، في الحيّ الذي تسكن فيه التقينا بالصدفة بصديقة لها. قالت حنا وهي تعرّف عن ولديّ : زين و طل هما هديّة الرب التي وصلتني قبل نهاية الرحلة.
زين وطل الملاكين الذين تحدثت عنهما حنّا. طل ابنتي، التي كانت تغلق الباب بوجهها كلما جاءت لزيارتنا. حيث كانت في خوف شديد أن تخطفني حنّا في تلك السويعات القليلة منها. طل التي تعلمت أول كلماتها الألمانية من حنّا. وأنا التي تعلمت ألا أخاف وهي هنا، و زين ولدي الذي تعلّم أن يركض صوب حضنها كلما حضرت إلينا. نسيتْ حنا أن تقول بأنها كانت أجمل هدايانا.