نور العجيلي – هاغن.
مع بداية العام الحالي شهدت القارة العجوز واحدة من أكبر موجات الهجرة واللجوء إليها عبر التاريخ، حيث بلغ عدد الواصلين إلى ألمانيا فقط ما يزيد على مليون مهاجر بشكلٍ غير شرعي، وحسب الإحصاءات غير الرسمية فإنّ نصيب العرب عمومًا –والسوريين خصوصًا- منهم جيد، معظمهم يتكلمون العربية بوصفها اللغة الأم، الأمر الذي جعل منها حاجة وضرورة ملحّة في مختلف ميادين العمل داخل أوروبا، وألمانيا بشكل خاص، وذلك بسبب كثرة اللاجئين، وعدم وجود وسيلة للتفاهم معهم من قبل السلطات الألمانية سوى الاستعانة بمترجمين يتقنون العربية، سواء أكانوا عربًا أم أتراكًا أم من أية جنسية أخرى.
وقد أدركت السلطات الألمانية ضرورة وجود صلة وصل بينهم وبين اللاجئين، وبالطبع تشكّل اللغة العنصر الرئيس في مدّ جسور التواصل بين المجتمع الألماني والسلطات الألمانية من جهة، وبين اللاجئين من جهة ثانية. إلا أنه ليس المقصود هنا أنه على الألمان تعلّم العربية كي يتمكنوا من التواصل مع اللاجئين الضيوف لديهم؛ بل إنَّ أكثر ما تشدّد عليه السلطات الألمانية هو ضرورة تعلّم اللاجئين اللغة الألمانية، والإسراع في الانخراط داخل المجتمع الألماني؛ حيث تقوم سياسة الاندماج على ضرورة تعليم اللاجئين اللغة الألمانية، وبالتالي تعلّمهم لغة البلد وثقافته وعاداته.
فاللغة ليست مجرد كلمات وقواعد نحوية؛ بل هي جملة المفاهيم التي تنظّم حياة الشعب الناطق بها، لذا فإنّ الحكومة الألمانية قامت بترجمة كثيرٍ من الكتيّبات التي يحتاجها اللاجئ خلال فترة قدومه الأولى، بحيث يتمكن من التعرّف على قوانين البلد، وبعض عاداته، فيسهل عليه التأقلم والاندماج مع المجتمع المحيط؛ فتجد مثلاً أنَّ الحكومة الألمانية قامت بترجمة الدستور الألماني إلى العربية، كما بادرت صحيفة “بيلد” في مطلع أيلول/سبتمبر عام 2015 بإصدار ملحقٍ مجانيٍّ باللغة العربية للتعرف على مدينة برلين، وتضمّن الملحق أيضًا قاموسًا، يحتوي كثيرًا من المفردات باللغة الألمانية وما يقابلها باللغة العربية.
أمّا قناة دويتشه فيله DW فهي لا تألو جهدًا في مساعدة اللاجئين، حيث أطلقت صفحةً باللغة العربية على موقعها الإلكتروني لمساعدتهم في إيجاد حلول لما يواجهونه من صعوباتٍ خلال فترة قدومهم، كما تقدم لهم إجاباتٍ عن كثير من الاستفساراتٍ التي تخصُّ جوانبَ حياتهم في ألمانيا.
ليس ذلك فحسب، بل أصدرت الحكومة الألمانية قرارًا يقضي باعتماد اللغة العربية في امتحان قيادة السيارة شأنها في ذلك شأن باقي اللغات المعتمدة مثل: الإنكليزية والتركية والرّوسية؛ الأمر الذي يوفّر فرص العمل للكثير من اللاجئين، ويساعدهم على اختصار الوقت وبالتالي سرعة الانخراط في سوق العمل مبكرًا. –ومن المقرر أن يبدأ العمل بهذا القرار ابتداءً من شهر تموز القادم–.
ومع كلّ هذه الإجراءات زادت مناشدات اللاجئين اعتماد اللغة العربية كلغةٍ ثانيةٍ في المدارس، حيث تضمن لأبنائهم على المدى البعيد عدم انفصالهم عن تاريخهم وعاداتهم، وبالتالي ضمان اندماجهم لا انصهارهم داخل المجتمعات الأوربية. حيث يرغب عدد كبير من اللاجئين أن يكون تدريس اللغة العربية كمادةٍ أساسيةٍ من البرنامج التعليمي في المدارس، وأن يتم ذلك عن طريق أساتذة مختصين، وهذه المطالبات لم تكن من جانب اللاجئين فقط؛ بل لاقت هذه الرغبة في الآونة الأخيرة دعمًا ألمانيًا في بعض الأوساط، وتفاعل العديد منهم مع هذه الفكرة. فحسب موقع قنطرة الإلكتروني ذكرت صحيفة (Die Zeit) الألمانية أنَّ رئيس جامعة (K.L.U) توماس شتروته كان قد طالب بتدريس اللغة العربية كمادةٍ إلزاميةٍ في المدارس الألمانية، وأكدَّ شتروته أنَّ الوصول إلى مرحلة المساواة بين اللغتين الألمانية والعربية في المحاضرات الدراسية سيعطي الشباب الألمان فرصة التواصل مع العالم العربي، كما أنَّه يعني الاعتراف بألمانيا كبلدٍ يستقبل المهاجرين وكمجتمعٍ متعدد اللغات؛ وفي سياقٍ متّصل ذكر الموقع نفسه تأييد الكتلة البرلمانية لحزب “الخضر” في ميونخ اعتماد اللغة العربية كلغةٍ ثانيةٍ في المدارس الثانوية.
وكان لهذا الأمر انعكاساتٍ مهمّة بين أوساط اللاجئين، فالكثير من أبناء اللاجئين دخلوا إلى المدارس الألمانية ولم يتقنوا بعد مبادئ لغتهم الأم وقواعدها، وبالتالي من الضروري لهم في بداية تعلّمهم –حسب آراء بعض اللاجئين– التعرف إلى لغتهم وثقافتهم وعاداتهم، ومن ثمّ في الوقت ذاته تعلم الألمانية كلغة ثانية رديفة للغتهم الأصلية، تساندها وتعاضدها، لا أن تلغيها أو تؤثر سلبًا عليها، وهذا الأمر منوط بضرورة اتخاذ تدابير إجرائية مدروسة، تضمن الوصول إلى الأهداف المرجوة.
“أم عارف” وهي أم لولدين تؤكد على أهمية إعطاء دروس في اللغة العربية لأبناء اللاجئين، وترى أنّ اتخاذ مثل هذا القرار داخل المدارس يبعث نوعًا من الارتياح في نفوس أولياء الأمور من اللاجئين السوريين؛ فمن الضروري أن يبقى أطفال اللاجئين على ارتباط وثيق بهويتهم ولغتهم، وأن يكون لديهم إلمام بقواعدها.
كما أعربت عن فرحتها عندما حصل ابنها على نقاطٍ عاليةٍ في مادة اللغة الألمانية في المدرسة، وفي الوقت نفسه يتمكن من قراءة بعض الكتب أو القصص باللغة العربية. فذلك يساعده على قراءة تاريخ بلاده، وعاداته ومن ثمّ ضمان الارتباط مستقبلاً بثقافته ووطنه الأم.
“فالإندماج لا يعني الانصهار والذوبان”. على حد قولها.
وأكدّت (Beate) وهي سيدة ألمانية تهتم بمساعدة اللاجئين في ولاية نوردراين فستفاليا، أنّ لهذه الفكرة فوائد مهمّة، حيث تُعزّز الشعور لدى اللاجئين أنّ الحكومة الألمانية تساعدهم على الحفاظ على ثقافتهم بالتوازي مع اندماجهم في المجتمع الألماني، وتعلّمهم اللغة الألمانية، واطلاعهم على الثقافة الألمانية إلى جانب ثقافتهم الأم. وبذلك تغدو ألمانيا أنموذجًا يُحتذى به للاندماج، قد يحقق نتائج مُهمّة على صعيد القارة الأوربية في إطار سياسة اللجوء واندماج المهاجرين إليها مع أبناء المجتمعات المحليّة.
وبدأت هذه الفكرة ترى النور بشكل حقيقي وعملي في عدد من المدن الألمانية؛ فقد بادرت مدرسة Gebruder grim schule في مدينة هاغن بتخصيص حصّة أسبوعية لتعليم العربية لأبناء اللاجئين، وذلك يوم الخميس من كل أسبوع، وبلغ عدد الطلاب في الصف الواحد 15 طالبًا بإشراف مدرسة لغة عربية من أصولٍ سورية، كما بادرت بعض المدارس الأخرى بإرسال دعوات إلى الأهالي لتسجيل أبنائهم في دروس العربية التي ستقام في الفصل الصيفي كتجربة أولية بهدف اعتمادها بشكل أساسي اعتباراً من العام الدراسي 2016-2017.