علياء أحمد. باحثة سورية في قضايا المرأة والطفل مقيمة في ألمانيا.
في خضم الصعوبات الكثيرة التي تواجه اللاجئين والمجتمع المضيف، يبدو أن اللاجئين الصغار يحظون باهتمام أقل من المطلوب، نتيجة أسباب متعددة تبدأ مع صعوبات حصول الأهل على الإقامة أو لم الشمل وتأمين سكن لائق، ولا تنتهي بالمراسلات البيروقراطية لمكتب العمل ودورات اللغة وغيرها.
الترف (الظاهري) والاهتمام الممنوح للأطفال في الروضات والمدارس وأماكن اللعب الكثيرة والإمكانيات المتاحة لتوفير راحة الطفل وسعادته، يدفع للاعتقاد بأن لا وجود لمشكلات جدية عند الأطفال اللاجئين، وإن وجدت فهي على سبيل الصدفة، أو نتيجة ظروف خاصة. لكن من خلال أحاديث الأهل من القادمين الجدد، وعند الاستماع لوجهات نظر المعلمين والمربين في المدارس والروضات، وكذلك عند التمعن في المشاهدات اليومية في الشوارع أو المواصلات والأماكن العامة، يتبين أن الأمر يستحق الوقوف طويلاً عنده، ويحتاج مزيداً من الاهتمام والجرأة في التعامل مع التحديات الكبرى التي تواجه جميع الأطراف (الأهل، المجتمع المضيف، الأطفال أنفسهم).
بالنسبة للأطفال، لا يعتبر موضوع اللغة التحدي الأكبر، فالأطفال يتعلمون اللغة بسرعة تذهل الجميع، لكنهم سرعان ما يدفعون ثمن هذه السمة الإيجابية، إذ يتحولون إلى مترجميين لأسرهم في الدوائر الرسمية وعند الأطباء وحتى في السوبر ماركت أو أية حالة تتطلب تواصلاً لغوياً لا يمكن للأهل القيام به. كثيرا ما يفخر الأهل بطفلهم/ طفلتهم الأذكياء، ولا ينتبهون إلى أن استخدام الطفل كمترجم فيه شيء من الانتهاك لطفولته، حتى وإن كانت الدوافع والغايات بريئة والأمر يتم بصورة عفوية، إلا أنه شكل من أـشكال عمالة الأطفال، وإقحام للطفل في مجالات ومهام ليست له، بل إنها غالباً ما تعود عليه بالضرر النفسي أو المعنوي، كالأطفال الذين يرافقون ذويهم إلى الأطباء مثلا، فتراهم يخوضون في مسائل تفوق قدرتهم على الفهم والاستيعاب.
لا يقف الأمر عند كون الطفل مترجماً لأهله، بل يتعدى هذا ليصبح معلمهم، وأحيانا يجعله ذلك متعالياً عليهم، فهو يعرف الآن مالا يعرفونه، ويفهم ويلحظ ما لا يلحظونه. وهكذا يبدأ بعض الأطفال بالتمرد والاستخفاف بأهلهم خاصة الأطفال في سن المراهقة، مما يدفع الأهل لسلوكيات انفعالية تصل إلى أشكال مختلفة من العنف أحياناً، فتخلق فجوة كبيرة بين الأطفال وعائلاتهم التي بدأت تغترب عنهم وتصبح “آخر” مختلف وغريب عنهم، ينتمي إلى عالم لا يشبه عوالم الطفل في الروضة أو المدرسة أو مع الأصدقاء.
عالم الأهل هذا، وبالرغم من اغترابه، إلا أنه جزءٌ مهم وأساسي من الذاكرة، يكبر أو يصغر حجماً وتأثيراً تبعاً لعمر الطفل وخبراته السابقة في بلده الأصلي، مما يجعله يعيش تناقضات في المشاعر والانفعالات، ويجعله أسير حالة صراع بين الهوية السابقة والذكريات المرتبطة بها والتي يعززها الأهل دوماً، وبين الهوية الجديدة التي يصنعها مسار حياته الواقعي.
في المقابل، يجهل المجتمع المضيف (الألماني) الكثير حول الخلفية التي قدم منها اللاجئون وأطفالهم، بل ويتجاهلها أحياناً. في كثير من الحالات تبيّن أن العديد من العاملين مع اللاجئين يعتبرون أن البحث في الخلفية التي قدم منها الطفل اللاجئ وفهمها ليست من مهامهم، وأن نظام صف اللغة الألمانية كلغة ثانية (داتز) كفيل بأن يعدل التمايز بين الأطفال اللاجئين وأقرانهم الألمان من خلال اللغة، لينخرطوا سوياً فيما بعد في صف واحد. لكن الطفل القادم من تجربة قاسية عاش فيها ظروفاً غير انسانية سواء في بلده المشتعل بالحرب، أو على طريق الموت في سبيل الوصول للجنة الموعودة، يختزن كثيراً من الصور العنيفة التي تظهر هنا وهناك، سواء بالعنف الموجه للأقران في المدارس، أو المشكلات مع الأهل، وحتى في تخريب الممتلكات العامة.
خبرات أكثر عاشها الطفل اللاجئ مقارنةً بالأطفال الآخرين في محيطه، ليست في معظمها خبرات إيجابية، ويتحمل مع محيطه نتائجها الصعبة التي تتراكم يوماً بعد يوم، الأمر الذي يستدعي المزيد من الانتباه لواقع الأطفال اللاجئين.
“تسألني المعلمة أسئلة غبية”. هذا ما قاله مجد (8 سنوات) الذي يعيش في ألمانيا منذ سنتين. وحين استوضحت أمه منه أجاب: “بعد أن غنينا لصديقي في عيد ميلاده وزعت أمه الكاتو علينا، فجاءت المعلمة وسألتني هل تعرف الكاتو؟ هل يوجد كاتو في سوريا؟!” وأضاف مجد ساخطاً” “هي تظن أننا نعيش في الخيام. لا تعرف أنه كان عندنا بيت لكنه قُصف و دُمّر”!
اقرأ أيضاً للكاتبة: