عماد الدين موسى*
لعلّ أوّل ما يُلفت الانتباه في لُغة الشاعرة العراقيّة رشا القاسم، هي تلك الخصوصيّة الجليّة في عنايتها بالمُفردةِ، سواء من حيثُ الجزالة والغنى الدلالي أو من جهة توظيفها في سياقها المرجوّ ضمن ما يسمّى بالنَسَقِ الشِعريّ، وذلك رغبةً من الشاعرة في تشكيل معجم لغويّ خاصّ بها، فيه من البساطةِ في التعبير بقدر ما فيه من العُمق والتنوّع والاختلاف.
في مجموعتها الشِعريّة الجديدة “أرمي العصافير على شجرة العائلة”، الصادرة حديثاً عن منشورات المتوسط (إيطاليا، ميلانو- 2018)، تحاول الشاعرة رشا القاسم أنّ تكتفي بصوتها الخاصّ ضمن كرنفال الحساسيّة الشِعريّة الجديدة، وذلك في ظلّ الفوضى الإبداعيّة والضجيج المُنفلت لأصوات تعلو وتخفت سريعاً هنا أو هناك، وتحديداً عبر مواقع التواصل الاجتماعي. لكن رشا، يبدو أنها قرّرتْ، ومنذُ البدايةِ، أنْ تسلك طريقها المُغاير، بعيداً عن هذه المتاهة التي لا تُفضي إلى أيّ مستقرّ يُذكر، حيثُ تقول: “فات الأوان على أن اخلع/ قطع الأرضيّة الصلدة/ سعياً للحصول على تربة هشّة/ فات الأوان لأفكّر في أن أغيّر/ المنزل إلى حديقة/ لا أشعر وسطها بالوحدة”. وفي مقطعٍ آخر، يأتي في ذات السياق، تقول: “من باب الاعتزاز بالوحدة،/ أنا نبات الظل/ اسبرجس هذه العزلة/ ترابي هو العائلة”.
استراتيجيّة العَنْوَنَة
تنبعُ أهميّة التجربة الشِعريّة لرشا القاسم في أولى تجلّياتها من عنايتها بالعنونةِ، جنباً إلى جنب، بحيثُ تتداخل عمليّة الانتقاء الدقيقة للعنوان مع عوالم القصيدة نفسها، تداخلاً شفافاً وحميماً، ما يجعل من كتابتها أكثر جديّة وتماسكاً، سواء من جهة الربط السلس هذا ما بين النص والعنوان أو من حيثُ المراوغة والمخاتلة وعدم اكتفائها بالعناوين السطحية والجامدة، لتعوّض عنها بتلك العناوين المتنوّعة والغنيّة والمُغايرة، في الآنِ معاً. فنجد أنّ بعض العناوين تأتي في صيغة جملة طويلة أو شبه طويلة، وغايةً في البراعة والإدهاش، لا سيما العنوان الرئيس للمجموعة “أرمي العصافير على شجرة العائلة”، بالإضافة إلى عناوين القصائد التالية: “أنا غير مرئيّة”، “أحرّر نساء منهكات في مكانٍ ما”، “ما يُغني عن الوحدة”، “لتصير البيوت سفناً”، “كلما تعالت الأغصان”، “مجبولة على عادات سيئة”، و”أصيرُ وحيدة وأنجو”.
كما نجد لديها عناوين أخرى فيها من التضاد أو التناقض المحبّب والأليف إلى حدّ ما، وقد يكونُ العنوان جزء لا يتجزأ من القصيدة، كما في قصيدة (لأكون ناياً)، أو قد يكون عبارة عن مزجٍ شِعريّ مُذهلٍ لجوانب متناقضة من الحياة، سيما الحزن والفرح، البياض والسواد، الوجود والعدم، الأنا والآخر، الواقع والمجاز، العتمة والضوء، كما في قصيدة (نصف ضوء) وفيها تقول الشاعرة: “الضوء/ الذي كلما امتدت به/ مسافة حزن خفَت،/ من فرط الوحدة كان يفكر/ أن يصير عتمة”.
أسئلة الشِعر الحائرة
تذخر قصيدة رشا القاسم بتلك الأسئلة الفلسفيّة العميقة في سؤالها الوجوديّ القَلِق حول ماهيّة الهلاك والخلود وتفسيرهما تفسيراً منطقيّاً كلٌّ على حدة، وكذلك من ناحية وقوفها على حقيقة الكائن الهشّ في مواجهة قوى الطبيعة التي تتحكّم به أكثر من سيطرته عليها ووضعه لهذه القوى اللانهائيّة في خدمته، ولعلّ موريس بلانشو في كتابهِ (كتابة الكارثة) كان محقّاً حين أكّد بأنّ “الشعر سؤال بالنسبة إلى الفلسفة التي تزعم أنها تقدّم جوابه، وتفهمه.
إنّ الفلسفة التي تعيد النظر في كل شيء، تخفق في الشعر الذي هو سؤال يفلت منها”. حيثُ تكتفي الشاعرة القاسم بطرح المزيد من الأسئلة دون الإجابة عليها، في محاولةٍ منها لصفع الغموض/ المجهول لربّما تتمكّن من أن ترديه ذات غفلةٍ. في قصيدة بعنوان (للشمس وللغبار)، ثمّة إشارة استفهام ظاهرة في النهاية، حيثُ تقول: “مستلق/ وجهه للشمس وللغبار/ للخوذ الفارغة/ والجثث العطنة/ هذا النهر/ من يسند ظهره؟”.
وفي قصيدة (مزهرية للترقب)، عكس السابقة، ما من إشارة استفهام إنما ثمّة تلميحٌ فحسب، تقول: “أنا التراب/ قلبي مزهرية للترقب/ على عاتقي نبتة من مفاتيح/ مقوّضة الوجه أصبو للطريق/ بعينين فاغرتين/ أرد على الأسئلة المنتقاة/ باللاجواب“. المُفردة الأخيرة “اللاجواب” تختزل كل ما يراود الشاعرة من أسئلةٍ ووساوس وأفكار كثيرة، ليس لها أن تجيب عليها ولو قليلاً، لذلك نجدها تكتفي بترك القارئ/ المُتَتَبّع في حيرة أثناء وبعد إتمام عمليّة القراءة/ التلقّي.
الشاعر ربّان مُغامر
مجموعة “أرمي العصافير على شجرة العائلة”، والتي جاءت في ثمانية وثمانين صفحة من القطع المتوسط، هي باكورة إصدارات رشا القاسم، الشاعرة العراقيّة المُقيمة في السويد، وفيها تقدّم نموذجاً حيّاً لشِعر الذات، سواء في محاورتها للآخر/ الند أو حتى في عزلتها المُخيّرة، ربّما لأنّ “القصيدة الجديدة- بحسب الشاعرة الراحلة سنية صالح- رافد جديد لنهر الحساسيّة والتصوّرات والآمال البشريّة، والشاعر ربّان مغامر يرسم خريطة الأمواج”.
جديرٌ بالذكر أنّ هذه المجموعة قد سُبِقَ وأنْ تُرجِمَتْ إلى اللغة السويدية. كما تمَّ تلحين بعض القصائد وغناؤها من قبل إحدى الفرق الموسيقيّة السويدية. كذلك اختيرت الشاعرة ضمن قائمة المواهب الواعدة في الأدب في السويد للعام الحالي. بالإضافة لمشاركتها في مشاريع ثقافيّة عدّة من أبرزها “مشروع التاريخ المشترك”.
“هناك ألم في اليد/ أتحسّسه حين أمدها وتعود خالية/ هناك خفقان حاد/ أن قدماً كبيرةً دهستني“.. تقول رشا.
*عماد الدين موسى-كاتب من سوريا
اقرأ أيضاً: