عبد الكريم بدرخان
“إذا كنتِ تضيّعين ولو دقيقةً واحدةً من يومك، وأنتِ تفكّرين في مظهر شَعرك أو جسمك، أو تبحثين عن تجاعيد حول عينيك، أو تتساءلين إنْ كانت ملابسُك ملائمةً عليكِ… فإنّ هذا الكتاب لك”. نشرتْ نعومي وولف كتابها “أسطورة الجمال: كيف تُستخدم صُوَرُ الجمال ضدَّ النساء” عام 1990، وسرعانَ ما حقّق الكتاب مبيعاتٍ وانتشارًا واسعين، ووضع لمؤلفته اسمًا إلى جانب أكثر الكاتبات النسويات تأثيرًا، ما أهَّلها لتصير متحدثةً رسميةً باسم ما عُرف “بالموجة النسوية الثالثة”.
نعومي وولف (1962-…) الصحافيّة والكاتبة النسوية والسياسيّة، والمستشارة السياسية للرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلنتون، أرادتْ في كتابها الصادر عام 1990 أن توقظ العالم على حقيقة مفادُها: “في الوقت الذي استُبعدتْ فيه بعضُ الممارسات، وأُلغيتْ بعضُ القوانين المقيّدة لحرية المرأة، نمتْ بشكلٍ خفيّ قيودٌ جديدة وحلّت محلّها”. توضّح وولف أن “أسطورة الجمال” نظام عقائديّ متين، تُقاس فيه قيمةُ المرأة بجمالها. نظام وُضعتْ فيه معايير الجمال، بشكلٍ يُجبر المرأة على إنفاق مبالغ مالية طائلة من أجل تحقيقها. لكنها سوف تفشل في نهاية المطاف، لأنها لن تستطيع إيقاف تقدُّمها بالعُمر. الهدف من هذا النظام، كما ترى وولف، إبقاء المرأة مشغولة البال، غير مرتاحة وغير واثقة. والأهمّ من ذلك؛ إبعادُها عن تبوُّؤ أية سلطة حقيقية في المجتمع.
وفقاً لـ “وولف”، فإن “أسطورة الجمال” حركة مقاومة ضدّ الحريات التي نالتْـها المرأة في العقود الأخيرة، فالقيود الاجتماعية التي كانت تحاصر حياة المرأة، صارت اليوم تحاصرُ وجهها وجسدها. بناءً على ذلك تطرح تساؤلها الأبرز: “اليوم، تبحث المرأةُ عن مكانتها بين أجساد النساء الأُخريات. أما الجيل الذي سبقنا من النساء، فكنَّ يبحثنَ عن مكانة المرأة في المجتمع”. تسوق “وولف” آراءها محاولةً بناء ما يشبه النظرية، فتشير إلى وجود ضغط اجتماعي على المرأة لكي تكون نحيلة، شابة وفائقة الجمال. وهذا ما يجعلها تعيش حياتها ضمن سجن ذكوري، وتضيف أن هذا السجن ردُّ فعلٍ انتقامي على المكاسب التي حققتها الحركة النسوية في العقود الأخيرة.
تتتبّعُ “وولف” تأثيراتِ “أسطورة الجمال” في ظواهر متعددة، بدءًا من الصغير والهامشي إلى الكبير والجوهري. فتشير كيف تؤثر على فرص العمل في منحيَين، حيث تكون أولوية التوظيف للنساء الجميلات (موظفة حسنة المظهر)، وكيف تفقد نساءٌ أخريات أعمالهنّ بعد تقدّمهنّ بالسنّ أو فقدان شكلهنّ الجميل (مذيعات التلفزيون مثلاً). وتقول إن الحيّز الاجتماعي الضيّق الذي تحاول المرأة إثباتَ هويتها فيه، يكون محاصَرًا بسيفين: الأول هو كيف تُقيَّمُ المرأةُ وتُحاكَمُ في عيون الآخرين، والثاني هو كيف تُقيِّمُ المرأةُ نفسَها بعيونها.
تشبّه “وولف” الجمالَ بالمذاهب الدينية المتشدّدة، ففي “أسطورة الجمال” حلَّت الطهارةُ الغذائية محلَّ الطهارة العُذرية، وتجويعُ الجسد محلَّ كبح شهوات الجسد. فالخطايا اليوم، حسب وولف، ليست الانسياق وراء الرغبة الجنسية، بل وراء الرغبة الغذائية. وللتكفير عن هذه الخطايا، والعودة إلى جادّة الإيمان القويم، يجب على المرأة أن تُقاسي المشاقَّ الجِسَام في سبيل تحقيق معايير الجمال، لأنه قيمتُـها.
تتحدث وولف عن المجلات النسائية كذلك، وترى أنها لعبتْ دورًا بالغ الأهمية في الترويج لـ “أسطورة الجمال”. صحيحٌ أنها ساهمتْ في تقديم الحركة النسوية إلى جمهور النساء أكثر من الكتب النسوية، لكنْ: “تضمّنتْ الوصفةُ الطبيّة عنصرًا قلَب المزيج، وحوّل الدواء إلى سُمّ، فالموضوعات الطاغية في المجلات النسائية تتعلّق بالحِمْية والعناية بالبشرة وعمليات التجميل. فهذه المجلات تبيع أحدثَ الإصدارات القاتلة من أسطورة الجمال، والتي تُشترى بالمال. ولماذا يحدث ذلك؟ لأنّ أصحاب الإعلانات التجارية هم الهيئة المكلّفة برقابة المطبوعات في الغرب”. طبعًا تقول الجملة الأخيرة على سبيل السخرية.
واليوم، بعد 26 عامًا من صدور كتاب “أسطورة الجمال”، ما هو موقع أسطورة الجمال في عالمنا؟ وما مدى ارتباطها بمعايير النجاح والمكانة الاجتماعية الأعلى؟ فها هو الإقدام على عمليات التجميل والتنحيف يزداد باطّراد، ويزداد التجويع الطوعي للجسد عند النساء والرجال أيضًا. وكما تكهّنتْ وولف في كتابها: “هل جلَبتْ هذه المعاركُ الجمالية السعادةَ للنساء؟ أم ازداد بؤسهنّ؟”.
عندما وضعتْ وولف كتابها، لم نكن في زمن الإنترنت، ولم تكن الحواسب منتشرةً بهذا الشكل، ولم تكن الهواتف الذكية موجودة. ففي زمننا اليوم صارتْ عولمةُ “أسطورة الجمال” أسهلَ بكثير مما كان الوضع عليه سابقًا، وصار بإمكان النماذج الجمالية التجارية الوصول إلى أماكن قصيّة، وبسرعة فائقة.
لكن في المقابل، شكّلت منتديات الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي منصّةً لكل من يريد الكلام، وانتقاد أسطورة الجمال، بالإضافة إلى تواصل المستخدمين مع ثقافات أخرى، وتزايد الاهتمام بالقضايا العامة على حساب الخاصة. واليوم لم تعد الصُوَر المنشورةُ حكْرًا على نجمات السينما والغناء، ومن اختصاص مجلات معينة، فيمكن اليوم لأية امرأة أن تتصوّر وتنشر صورتها، ما أدّى بالتراكم إلى ازدياد الاهتمام بجمالية الطبيعي والعادي. كما فتحت شبكة الإنترنت المجال للنقاشات العامة، والتي تدفع الناسَ إلى التمايز عن طريق إتقان فنون الكلام وسوق الحجج، وبالتالي التنافس بما يحمله الإنسان من جوهر، لا بوصفه شكلاً أو صورةً أو شيئًا.
————————————-
هوامش:
[1] اعتمدنا نسخة:
Naomi Wolf, The Beauty Myth: How The Images of Beauty Are Used Against Women, Williams & Co. New York 1991.
[2] تقصد الأسطورة (Myth) بمعنى الخرافة، لا الأسطورة باعتبارها مكوّناً أساسياً من مكوّنات الدين، وهو ما يدخل ضمن اختصاص علم الأساطير (الميثولوجيا).
[3] الموجة النسوية الثالثة: فترة نشاط نسوية تمتد من بداية تسعينات القرن العشرين إلى يومنا هذا. ظهرت الموجة كردّة فعل على ما اعتبرته فشلَ الموجة النسوية الثانية، والتي ارتكزتْ بشكل أساسيّ على التغلّب على العقبات القانونية وصولاً إلى المساواة بين الجنسين في الانتخاب وحقوق الملكية. إلا أنّ الموجة الثالثة كانت أوسع نطاقاً وأكثر تنوعاً في القضايا والموضوعات، مثل عدم المساواة غير الرسمية (الواقعية)، والعمل والأسرة، والتخلُّص من أي تمييز قانوني على أساس الجندر.
*نشرت هذه المقالة في مجلة سيدة سوريا.