علياء أحمد. باحثة ومدرّبة في قضايا المرأة
هل “الرجل النسوي” موجود، أم أنّه محض خيال؟ هل يمكن لرجل تنعّمت جيناته عبر الأجيال بمكتسبات المنظومة البطريركية، أن يكون “نسوياً“ حقّاً؟ لماذا يتنازل عن مكانة منحها المجتمع لجنسه مهما علا أو قلّ شأنه كشخص، إذ يكفي أن يكون “ذكراً” ليشغل مرتبة أعلى من الإناث في محيطه، وقيّماً عليهن. لايغير من الأمر لو كنّ أكبر منه سناً، أو أعلى تحصيلاً علمياً، أو كفاءةً عملية، فهو يستطيع التحكم بهنّ وفرض إرادته عليهن، بل والذهاب أبعد من ذلك، حين يملك بحق الدم أو الزواج إنهاء حياة المرأة التي يعتقد أنها “لطّخت شرفه”، في منظومة اجتماعية وقانونية تطلق يده وتضمن له هذا “الحق”.
أليس إدعاء رجل ما بأنه “نسوي” ومناصر لحقوق المرأة، مجرّد أداة يستخدمها لتصنّع تضامن زائف مع النضالات النسوية، لحيازة مكتسبات جديدة، ومكانة له في الأوساط المنادية بالديمقراطية، حين يتشدق بشعارات لا يؤمن بها، ويمارس ذكوريته على النساء في دائرته؟ وهو غير معنيّ بتبرير تناقضاته، لاعتقاده الثابت بأنه الأعلم بمصالح النساء واحتياجاتهن أكثر منهن أنفسهن، وهذا يعطيه الحق باتخاذ القرارات عنهن، معتقداً أنّ إشهار دعمه اللفظي لحقوق النساء يمنحه حصانة ضد الاتهام بالتسلط الذكوري. وإن صدر عنه، وهو الخبير النسوي العتيد، ما قد تراه النساء “ذكورية”، فهذا سوء فهم منهنّ، لأنهن “راديكاليات” زيادة عن اللزوم، بل و”كارهات للرجال”. في أحسن الأحوال “تنقصهنّ الخبرة والتجربة”!
ما سبق، وغيره من طروحات، تتطلّب من المهتمات والمهتمين البحث بجدّية في مدى قدرة الرجل أن يكون نسوياً بالفعل، خاصة وأنّ وصائية رجال يدّعون دعم النساء بتعالٍ و”أستذة”، جعلت نسويات كثيرات يضقن ذرعاً بهم وبمواقفهم المتناقضة، فبدأن يعلنّ صراحة أن وجود الرجل النسوي “وهم”، ولا وجود لرجال نسويين مؤمنين بحقوق النساء فعلاً وقولاً.
اقرأ/ي أيضاً: النسوية السورية.. صراع وجود لإثبات الوجود
لمقاربة هذا الموضوع، لا بدّ من العودة إلى تعريفات النسوية المختلفة ومعرفة إمكانية انطباقها على الرجال. تجدر الإشارة إلى أن اختلاف المدارس والتيارات النسوية باختلاف السياق الزماني والمكاني، لعب دوراً كبيراً في تعدّد التعريفات، فبعضها يركز على الحركات الاجتماعية والسياسية المُطالبة بحقوق المرأة، ويُسلّط الضوء على الفاعلات والفاعلين في تاريخ نضال الحركة النسوية والمكاسب التي حقّقتها. وهنا لايمكن إنكار دور الرجال الذين ناضلوا بشجاعة لتنال النساء حقوقهن، وكانوا في بعض المجتمعات سبّاقين إلى المطالبة بحقوق النساء، لاعتقادهم الراسخ بأن ذلك سينعكس إيجاباً على المجتمع ككلّ، ولرفضهم مكتسبات “الذكورة الفارغة” التي يوهم المجتمع رجاله بها، حفاظاً على قيم بطركية تراتبيّة، تصنّف أفراد المجتمع ضمن هرميات متقاطعة، وتبقي على المرأة في أدنى المراتب، بما يُشعر الرجال، مهما قلّ شأنهم وضحلت حقوقهم، بأن هناك من هو أقلّ منهم.
في جميع الثقافات والمجتمعات هناك رجال وعوا هذه القضية، فناهضوا الفكر الذكوري المتسلط وآمنوا بحقوق النساء، ودعوا إليها علناً. ابن رشد، على سبيل المثال، في تعليقاته على كتاب (أفلاطون والسياسة)، كان سابقاً عصره في رؤيته حول المساواة الإنسانية بين الرجل والمرأة، وبيّن أن الفروقات بينهما ليست إلا نتيجة للتنشئة الاجتماعية التي ميزت بين أدوارهما، ونادى بضرورة أن تنال النساء التربية نفسها التي يتلقاها الرجال، مما سيجعل منهن شريكات حقيقات. لكن الواقع يؤكّد أن صدى طروحات ابن رشد يتردّد عند عدد قليل من الرجال في مجتمعاتنا، مقارنة بمن يتماهون مع صوت الغزالي مثلاً، الذي يُحمّل المرأة “عوراتٍ” عشر، يستر الزواج إحداها ويستر القبر التسع الباقية!
تتمحور تعريفات أخرى للنسوية على تصورات المرأة الفكرية والفلسفية حول ذاتها، وحول رؤيتها للعالم وكينونتها، بعيداً عن الإيديولوجيات الذكورية التي كرست النظرة الدونية تجاهها. ونتيجة لهذه التصورات النابعة من وعي النساء لذواتهن، تظهر رؤية أنثوية نسوية، تعبر من خلالها النساء عن قضايا العالم من منظورهنّ، بلغة جديدة مختلفة عما اعتاد العالم سماعه من أفواه الرجال، حتى المدافعين منهم عن حقوق النساء. هذا الوعي للذات النسوية التي تخلّصت من هيمنة الخطاب الذكوري، يشكّل إضافة غنية للعالم ويخلق توازناً طبيعياً، وهو ما يجدر بالرجال المدافعين عن حقوق النساء معرفته، واحترامه والانصات له، ليكونوا نسويين حقاً.
في المقابل لابد أن ننتبه كنسويات، أن إدراك هؤلاء الرجال لضرورة نيل المرأة حقوقها في سياق المساواة والعدالة، وسعيهم لتحقيق ذلك شخصياً ومجتمعياً، وإيمانهم بوعي النساء لذواتهن ورؤيتهنّ الخاصة، ودعمهم لهنّ للتعبير عنها، كلّ ذلك يضعهم في مواجهة لايحسدون عليها، مع المنظومة الذكورية التي تحاكمهم، بل وتعاقبهم أحياناً، لتواطئهم ضدها و”خيانتها”. وما يتعرض له الرجال النسويون من إساءات وتنمّر ضمن مجتمعاتهم، يدفع برجال آخرين لالتزام الصمت تجاه قضايا النسوية، والتي، للمفارقة، تقف ضدّها نساء كثيرات، “ذكوريات” التفكير والعقلية.
اقرأ/ي أيضاً: الحق في المُتعة الجنسية: النسوية والسرير
حين ترفض كثير من النسويات فكرة جود “رجال نسويين” بالمطلق، فإنّ مثل هؤلاء الرجال، على قلتهم، سيجدون أنفسهم بين نار المجتمع الذي يوصمهم، ونار النسويات الرافضات لهم. وبالتالي علينا كنسويات، أن نعي ضرورة وأهمية تضامن الرجال النسويين معنا، طالما أننا نناضل لأجل الأهداف نفسها: مساواة حقوقية وعدالة جندرية ومجتمع ديمقراطي وتكافؤ فرص، فالقضية ليست انتصار جنس على آخر. من الواجب أيضاً أن نستخدم لغتنا وأسلوبنا النسوي، لا أن نسمح للعقلية البطريركية وتعبيراتها اللفظية والسلوكية أن تسحبنا إلى ساحاتها، نتيجة انجرارنا إلى استعمال معاييرها وأدواتها الظالمة، أثناء دفاعنا عن قضايانا العادلة.
يصعب القول بوجود معيار ثابت للتأكد ما إذا كان هذا الرجل نسوي أو هذه المرأة نسوية. المؤكّد أنّ الادّعاء وحده لايعني شيئاً دون ممارسة على أرض الواقع، ووعي الذات والآخر في ضوء التفكير النسوي وقيمه. هذه عملية مستمرة ومتجدّدة، لأن النسوية، في أحد أوجهها، وعي بالذات وقيمتها ووعي بالآخر وحقوقه، بمعنى أنّها وعي المرأة بذاتها ووعي الرجل بحقوقها. ولنتذكّر أنّه لا يلزم الإنسان امتلاك أعضاء جنسية أنثوية ليكون نسويا أو نسوية، كما لايلزمه امتلاك أعضاء جنسية ذكرية ليكون ذكورياً أو ذكورية.