أظهرت عدة دراسات امتدت منذ عام 2013 حتى الآن أن متابعة الفيسبوك تسبب التعاسة، خاصةً للنساء. هذا ما تقوله عدة مواقع إخبارية موثوقة. ولكن، ما هي أسباب هذه التعاسة؟
وفقًا لهذه الدراسات، فإن متابعة فيسبوك تؤدي إلى الغيرة والحسد مما يبدو أنه سعادة الآخرين، كصورهم الجميلة وعائلاتهم السعيدة وقدراتهم المادية. ينشر أحدهم صورته مع سيارته الحديثة والفخمة، أو مع حبيبته الجميلة، وتنشر إحداهن صورتها مع أطفالها الذين يظهرون كالملائكة تحت شجرة عيد الميلاد، وينشر غيرهم مواقعهم في فنادق ومطاعم فاخرة ومطارات ومدن سياحية حول العالم.
هذه المنشورات توحي للقارئ بأنه الوحيد الذي يقضي ليلته وحيدًا في غرفته المتواضعة، ويستخدم المواصلات العامة، ولا يملك ثيابًا أنيقة تحمل تواقيع كبار المصممين، ولا يذكر آخر مرة تجول فيها سائحًا في مدينة جديدة مبهرة.
في حديث مع صبية سورية طموحة وذكية قبل أيام، عبرت لي عن إحباطها كونها الوحيدة المضطرة للعمل ساعات طويلة، ومع ذلك فهي تعاني من صعوبات مالية، بينما ينعم غيرها بأوقات فراغ وعطلات جميلة، ويستطيعون شراء كل ما يرغبون به من ألبسة وأدوات تجميل وتكنولوجيا حديثة. وكانت بالطبع غير راضية عن شكلها، مقارنة بالأخريات الأكثر جمالًا ورشاقةً وأناقةً، كما يظهرن في صورهن على فيسبوك.
هذه الصبية تشكل صورة نمطية لما يمكن أن يسمى “ضحايا الإعلام الاجتماعي”. وهي مجموعة كبيرة من المتابعين، والمتابعات بشكل خاص، لمئات من حسابات مشاهير فيسبوك وتويتر وإنستغرام وسناب تشات وغيرها، بالإضافة إلى حسابات الأصدقاء والأقارب. تنتقل من تطبيق للآخر لتقرأ وتسمع وتشاهد كل ما يتباهى به هؤلاء من نمط حياة قد لا يكون في متناول المتابعين، والأهم من ذلك أنه قد يكون غير حقيقي.
مقارنة غير منصفة
ما ينساه المتابعون، والمتابعات بشكل خاص، أنهم كثيرًا ما يتباهون بأمور غير حقيقية بدورهم. فهم ينشرون صورًا استخدموا فيها مجموعة كبيرة تطبيقات “اصطناع السعادة”، كالمؤثرات والفلاتر التي تظهرهم أطول قامة وأنحف خصرًا وأكثر بياضًا أو سمرة، حسب الرائج والمطلوب. وهم يتصورون مع سيارات ليست لهم، وفي بيوت ليست بيوتهم، ويحرصون على تصوير لحظات سعادة لم يعيشوها فعلاً لأنهم كانوا مشغولين بتصويرها، أو لأنها لم تكن لحظات سعيدة بقدر ما كانت تشكل فرصة لالتقاط صورة “سيلفي” للمباهاة حينًا، ولإثارة غيظ الآخرين أحيانًا.
قلت لصديقتي الصغيرة إني ممتنة لأن كل هذه التقنية لم تكن موجودة عندما كنت في عمرها. لم أكن في حاجة لمقارنة نفسي بنجمات الإعلام الاجتماعي والشعور بعدم الرضى عن كل ما أمتلكه من مؤهلات جسدية وعقلية وإمكانيات مادية. في الواقع، كانت تكفي صورة ممثلة على غلاف مجلة الشبكة أو الموعد لإحداث نفس التأثير، ولكن الفرق الكبير هنا يكمن في التواتر. رؤية صورة على غلاف مجلة أسبوعية والشعور بالغيرة مرة أو مرتين أسبوعيًا، يختلف تمامًا عن رؤية هذه الصور ومتابعتها على مدار ساعات النهار، والليل أحيانًا.
الفرق الآخر يكمن في التقنيات نفسها، فلم يكن برنامج فوتوشوب وكل ما تبعه من تطبيقات تحسين الصور موجودة أيامها، ولم تكن جراحات التجميل وأدوات التجميل دارجة. كانت الجميلة جميلة دون مؤثرات، ومع ذلك لم يكن وجه من الوجوه أو جسد من الأجساد يخلو من العيوب. نجمة النجوم سعاد حسني كانت قصيرة وساقاها عريضتان، نجلاء فتحي كانت أسنانها معوجة، مديحة كامل كان وجهها عريضًا، وسهير رمزي كانت ممتلئة القوام إلى حد كبير. ولكن هذا لم يمنعهن من الجمال والتألق والنجومية وإثارة غيرة الأخريات.
نجمات الإعلام الاجتماعي اليوم مؤثرات بلا شك، وكثيرات يعتبرنهن قدوة فيما يخص الشكل، ويحاولن جاهدات اللحاق بهن، دون إدراك أنهن مهما فعلن فلن يستطعن في الواقع مجاراة صورة قد تم تعديلها إلكترونيًا. قد تستطيع الصبية شراء وتركيب وصلات الشعر والرموش والأظافر والعدسات الملونة، ودهن الوجه بعدة طبقات من المكياج و”الكونتور” لإبراز عظام الخدين وجعل الوجه يبدو أكثر نحافة وتبييض الأسنان وإزالة آخر شعرة من شعرات الجسد بالليزر، ولكنها تنسى أنها عندما تنظر في المرآة بعد كل هذا الجهد، فهي ما زالت ترى شكلها تخضع لرتوش إلكترونية، ولا يمكن مقارنة صورتها بما تراه منشورًا.
أعراض وأمراض
انتشار أمراض فقدان الشهية المرضي “أنوركسيا” والاستفراغ الإرادي “بوليميا” وهوس جراحات التجميل واستخدام مواد ضارة للحصول على الجمال ليست سوى أعراض مقلقة لمقارنة ما هو حقيقي بما هو مستحيل. المقلق أكثر هو أن الحديث عن تطوير الذات أصبح موضع سخرية أمام هذه الموجة من الجمال المصطنع، والسعادة المصطنعة. ومفاهيم مثل جمال الروح والفكر والعلم والثقافة والطموح وقوة الشخصية قد لا تلقى صدى مقابل “شانيل” و”مرسيدس” و”سيليكون”.
ولأن بداية حل أي مشكلة تكمن في فهمها وتوفر الإرادة لحلها، لعل من الضروري تذكر أن لا أحد ينعم بحياة مثالية، ولا حياة تخلو من المشاكل. مشاكلنا وأمراضنا ومعاناتنا واحتياجاتنا كبشر تتشابه رغم اختلاف ظروفنا وبيئاتنا، ومهما ادعينا التميز والكمال. وهنا تحضرني حكاية روتها لي صديقة، فعندما كانت في العاشرة من عمرها، ذهبت هذه الصديقة مع والدتها إلى الكنيسة للقاء الخوري، وعند وصولهما طُلب منهما الانتظار بضع دقائق إلى أن يحضر راعي الكنيسة للقائهما. أثناء انتظارهما، سألت الصغيرة أمها: “بماذا قد يكون الخوري مشغولًا؟” فأجابت الأم أنه قد يكون في الحمام. وهنا نظرت البنت إلى أمها مستغربة ومستنكرة، وسألتها: “ماما، وهل أبونا مثلنا يبول؟”
دينا أبو الحسن