د. سعاد تميم الجندي
لبست السيدة الجميلة ثيابها، ووضعت مكياجاً خفيفاً، التمعت خصلات شعرها الأشقر حول وجهها الملائكي، السيدة ج تفضل أن تموت على أن يراها أحد وهي ترتدي ثياباً ليست على الموضة، أو أن يكون على وجهها مكياج “بلدي” متداخل الألوان من أحمر وأخضر وأزرق، أو أن يكون شعرها منفوشاً أو مزِيِّتاً!
لا وألف لا.. فعندما ترون السيدة ج، اعلموا أنكم بحضرة النجمة في الليلة الظلماء التي ستقودكم إلى آخر خطوط الجمال والموضة والمكياج وعمليات التجميل التي تجمِّل المرأة، لا العمليات التي تصنع نوعاً قميئاً موحداً من النساء.
ركبت سيارتها أشعلت المذياع قال المذيع، نعود ونذكركم أعزائي المستمعين أن تتوخوا الحذر نظراً لهطولات رجالية متوقعة اليوم ظهراً، نفخت بين شفتيها وهزت برأسها… قالت لنفسها، ها قد عادوا لهذا الهراء.
فجأةً هطل المطر (الرجال) فوق سيارتها، ارتعدت من صوت ارتطامهم على السيارة وعلى الأرض، على الرغم من أنها لم تعد تتفاجأ من أي شيء في هذه الحياة من كثرة ما مرّ عليها من غرائب، لكن هذا المطر لم تر مثله من قبل، ولا حتى في الأفلام.
ما هذا “يا ربي دخيلك” نحن لا ينقصنا مصائب، ماذا لو دهستُ أحدهم ومات؟ وخذي على بهدلة مع الشرطة، ماذا لو كسر لي أحد الهاطلين زجاج السيارة؟ ماذا سأقول للمكنسيان؟ كسره المطر الرجالي؟ سيقولون أنني جننت!
في هذه الأثناء، هطلت دفعة لا بأس بها من الرجال من كل الأشكال والألوان فمنهم الشاب والعجوز، الطويل والقصير، الوسيم والقبيح، النحيل والبدين، الأشقر والأسمر.. تدافعوا كالأطفال وسدوا عليها الطريق ومدُّوا أيديهم نحوها وابتدؤوا بالغمز واللعب بحواجبهم، أحدهم قال : الله يوفقك مدام، طلعيني معك في سيارتك، سأكون لك خادماً، وآخر ارتمى أمام السيارة، ادهسيني يا مدام، مشان الله ادهسيني…
أخرجت المحارم المعقِّمة وابتدأت تمسح بقرف طرف السيارة من جهتها… أرجوكم ابتعدوا، ما هذا؟ أوفففف على هذا النهار، الآن سأتأخر على غدائي.
لكنها لم تستطع إلا أن تلاحظ أحدهم من خلال عدساتها الخضراء ونظارتها الغوتشي، يا له من رجل وسيم، نحيل جذاب نظيف أنيق رموش عينيه طويلة سوداء، ذكرها بأيام مراهقتها وهوسها بعبد الحليم حافظ، أشارت له بيدها أن تعال، ركب بالسيارة، قال مدام أنا تحت أمرك، الذي تريدينه أنا حاضر، ورفرف بجفنيه ونظر نظرات تصهر الحديد، قالت له: سأخبرك ماذا أريد، أريد أن انام بدون أدوية، أريد السلام للبلد، أريد أن يسعد أولادي في حياتهم، أريد راحة البال، وأريد أن أكون أجمل امرأة في المدينة، وأريد أن… قاطعها قائلاً: سيدتي لست أملك مصباح علاء الدين السحري، لكنني أستطيع أن أحبك حباً أسطورياً وأعتني بكِ وأدللكِ وأغني لك يومياً إلى أن نموت، أما بقية طلباتك، فلا أستطيع أن أحققها لك… لم تقل لي ما اسمك؟ اسمي عبودي! قال.
طلبت السيدة ج من عبودي أن يغني لها أغنية فبدأ يغني:
قلبى دق دق دق .. قلت مين على البيبان دق/ قاللى افتح ده الزمان .. قلت له يا قلبى لا/ جيِّ ليه يا زمان .. بعد إيه يا زمان/ من كام سنة قلبى وانا .. عايشين هنا من كام سنة/ من كام سنة دنيا الهنا .. بتضمنا من كام سنة/ و قال ايه جاى الزمان يداوينا .. من ايه جاي يا زمان تداوينا/ دا الأمل في عينينا .. والفرح حوالينا/ سأل الزمان وقال .. ايه غير الأحوال/ قلنا له حبينا حبينا .. وارتحنا ونسينا الجرح بتاع زمان.
تفاعلت السيدة ج مع الصوت والكلمات، انزلقت في مقعدها للأسفل، لم يعد رأسها مرئياً من خارج السيارة، ولكنها استدركت نفسها وحركت رأسها حركات فجائية سريعة، تماماً مثلما تفعل بعد أن ينتهي الحلاق من تمشيط شعرها، وكأنها تنفض عنه سرحانها العاطفي أو الذكريات التي استجرتها الأغنية، ثم مسحت دموعها، وقالت بهدوء وبصوت محايد: رجاءً اذهب الآن.
استدار شبيه عبد الحليم فوراً كرجل آلي كبسوا له زرّ الالتفاف للخلف، وغادر المكان وهو يقول بصوت حزين: تعلمين أين تجدينني مشيراً بسبّابته للمكان الذي هطل فيه المطر، تذكرت السيدة ج دروس الفتوة في المدرسة، كانت المدرِّسة ذات الكحل الأسود المخيف تقول عندما تعاقب الفتيات: أول شيء عليكن تعلمه يا بنات هو: نفذ ثم اعترض… لم يعترض أحد.
بعد دقائق، جفلت من صوت زوجها وهو ينهر جموع الرجال، ابتعد أنت وهو، هذه أنتِ من يسبب كل هذا الزحام! ما الأمر؟ أجابته: الرجال يهطلون من السماء، هم الذين يسببون هذه الفوضى.. تذكر ما حصل له البارحة مع النساء اللواتي نزلن مع المطر، ابتدأ يتفحص سيارة زوجته ثم قال لها: الأفضل أن تذهبي للبيت، الطقس سيّء… معزومة على الغداء، لن أتأخر، قالت.
هز رأسه معبراً عن عدم الرضا لكنه لوح لها بيده وهي أيضاً لوحت له وانطلقت بسيارتها نحو ڤيلا صديقتها، قال المذيع: أعزائي المستمعين، تنقشع الغيوم بعد الظهر وسنتمتع بطقس مشمس لطيف، نتمنى لكم مساءً لطيفاً وإلى اللقاء القريب.
د. سعاد تميم الجندي. كاتبة سورية مقيمة في بلغاريا
اقرأ/ي أيضاً:
قصة قصيرة: نهاية حفلات التقيؤ
قصة قصيرة: قلب امرأة
سلمان، أخي
عبدالله القصير لـ”أبواب”: حالة الانتقال من الخاص إلى العام دفعتني لكتابة “كوابيس مستعملة”