ترجمة الخضر شودار
بورتريه -آدم زاغاييفسكي-
آدم زاغاييفسكي شاعر بولندي ولد في ِلفُوف (Lvov) في بولندا عام 1945. انتقلت أسرته إلى غرب بولندا ثم مرغمة في ما بعد إلى ألمانيا. سيكتب عن هذه التجربة في كتابه “مدينتان-عن المنفى والتاريخ والتخيّل”، سيغادر الشاعر إلى فرنسا في الثمانينيات، وسيعمل مدرّساً في بعض الجامعات الأمريكية. في شعره الأخير، كتب عن اللّيل والأحلام واللامتناهي والتاريخ والصمت والموت.
سيعود زاغاييفسكي في مقالاته التي جمعها في كتابه” دفاعا عن الشغف” إلى الكلام عن تفاصيل من حياته، وصداقاته الشعرية مع زبغنيف هربرت وميلوش، وقراءاته وتأثراته الأخرى. يقول عنه دريك ولكوت إنّه: “الصوت الهادئ في ركن ما من الفظاعات العظيمة لهذا القرن الوقح ..”.
أصوات تلحق بك كحيوانات أليفة
أحياناً وأنت تمشي في طريق ريفي
أو في سكون غابة خضراء،
تسمع همهمات أصوات، ربما تناديك،
لكنك لا تصدقها، وتمضي سريعاً،
غير أنها تلحق بك
مثل حيوانات أليفة
لكنك لا تصدقها، ثم فيما بعد
على طريق المدينة المزدحم
تأسف على أنك لم تصغِ إليها
وتحاول جاهداً أن تستحضر
الكلمات، والأصوات، وتلك الوقفات في ما بينها.
لقد فات الأوان الآن
ولن تعرف أبداً
من كان يغني، وأية أغنية،
وإلى أين كانت ستسحبك.
تشيللو
أولئك الذين لا يروقهم يقولون
بأنه مجرد كمنجة خرساء
طُرِدت من جوقة الكورس.
ليس كذلك تماماً
للتشيللو أسرار كثيرة،
هو لا ينتحب أبداً
لكنه يغني بصوته الخفيض فقط.
إذ ليس لكل شيء أن يصبح هكذا قابلاً
للغناء. فأحياناً يتناهى إليك
همسٌ أو وشوشة:
أنا وحيد
ولا أستطيع أن أنام.
مطر لطيف
قرأتُ شعراً صينياً
كُتِب قبل ألف عام
يذكر فيه الشاعر المطر
الذي تهاطل طوال الليل
على سقف البامبو لسفينته
والسكون الذي نزل أخيراً
على قلبه.
هل هي مجرد صدفة وحسب
عودة نوفمبر ثانية، ضبابياً
ببرقٍ رصاصي؟
هل هو مجرد حظ
أن أحداً ما حيّ؟
إذ يولي الشعراء أهميةً كبرى
للجوائز والنجاح
لكن خريفاً بعد خريف
ينزع أوراقاً من كبرياء الشجر
وإنْ بَقِيَ منه شيء
فهو ذلك الهمس اللطيف للمطر
في الشعر
الذي لا هو سعيد ولا حزين.
وحده النقاء يمكن أن نراه،
وفي المساء، الضوء والظل، حين كلاهما
يغفل عنا للحظة،
وبهمّةٍ يخلط غوامض الأسرار.
نزهات طويلة
لم أكتب سطراً واحداً من الشعر
منذ أشهر
فقد عشتُ هانئاً، أقرأ الصحف،
أفكر في عيوب السلطة
وأسباب الطاعة.
وأتامل مشاهد الغروب
منصتاً إلى الطيور كيف تكبر في هدوء
وإلى سكون الليل.
رأيت زهور عباد الشمس حانيةً
رؤوسَها في أول الفجر، كأنها جلاّد لامبالٍ
يجوب الحدائق.
وغبار أيلول اللذيذ يتراكم
على حاشية النوافذ والسحالي
التي تختبئ في حنايا الجدران.
لقد خرجتُ في نزهات طويلة
تائقاً إلى شيء واحد:
التوهّج
والتحوّل
وأنتِ.
دفاعاً عن الشعر
أجل، دفاعاً عن الشعر، والبيان الرفيع، إلخ
لكن أيضاً عن مساءات الصيف في المدن الصغيرة
حيث نسم حدائق وقطط مثل حكماء الصين
تقعي في اطمئنانٍ على عتبات البيوت
صداقات مستحيلة …
مثلاً ، مع أحدٍ لم يعد موجوداً
سوى في رسائل بالية.
أو نزهات طويلةٍ قرب ينبوع
يظل عمقه خفياً
مع فناجين البورسلين – والكلام على الفلسفة
مع طالبٍ خجول أو حامل البريد
صداقة هذا العالم لن تكتمل أبداً
إلا في رائحة دمٍ مالحة
مع عجوزٍ يحتسي قهوته
في سانت لازار، مذكراً إياك بشخصٍ ما
مع وجوهٍ يتعاقب بعضها وراء بعض
في قطارات
و أخيراً صداقتك لنفسك
ما دمت قبل كل شيء لا تعرف من تكون
مجّد إذن هذا العالم المشوّه ..
في محلٍ لبيع الكتب وقعت بالصدفة على قسم الطّاو، أو
بدقةٍ أكثر، على “رسالة في الفراغ”
استمتعت كثيراً، طوال ذلك اليوم كنت فارغاً
يا لها من مصادفة – المريض يعثر على الطبيب،
والطبيب لا ينطق بكلمة.
***
ليست هذه هي القصيدة الوحيدة التي كتبتها لأجلك
– هل أنت نائمةٌ الآن في غيمة من الأحلام المخملية –
لأجلك منتصرة، ومبتسمة، وفاتنة،
لأجلك ايضاً، منهزمة ومستسلمة،
(حتى وإن لم أعرف أبداً من يجرؤ أن يتحداك)،
لأجلك، مريبةً وعصيّة،
كتبتُ قصيدةً وراء قصيدة،
كما لو أني آمل يوماً –مثل سلحفاة –
الوصول، بكلماتٍ وصورٍ ناقصة،
إلى المكان الذي عشتِ فيه طويلا
حيث تومض بك الحياة.
***
حاول أن تمجد العالم المشوّه
تذكر أيام حزيران الطويلة
التوت البري، وقطرات نبيذ وردي.
نبات القرّاص الذي ينمو بإنتظام
و مساكن مهجورة بالمنافي.
لقد رأيت يخوتاً وسفناً أنيقة:
بعضها مقبلٌ على رحلة طويلة،
فيما نسيانٌ ذريع ينتظر أخرى.
رأيت لاجئين قاصدين إلى أي مكان
و سمعت أدلاّء أسفارٍ يغنون بإبتهاج
عليك أن تمجّد هذا العالم المشوه.
و تذكّر تلك اللحظات حين كنا معاً
في غرفةٍ بيضاء والستائر تتلاعب.
ثم في رأسك عد ثانيةً إلى السهرة حيث كانت الموسيقى تتعالى.
في الخريف كنت قد جمعت أكوازاً بالحديقة،
وأوراق شجر تدور حول ندوب الأرض.
مجّد إذن هذا العالم المشوه
و الريشة الرمادية المهملة
و الضوء الخافت الذي يشع وينطفئ
ثم يعود
كنوز ليست له ..
فيما كان آخرون يشنّون حرباً
أو يرافعون لأجل السلم، أو يتمددون
على أسرة ضيقة بالمستشفيات
ومعسكرات، لأيام تنتهي
كان هو يتمرّن على سونيتة لبيتهوفن،
بأصابع نحيلة، مثل بخيل
يتلمس كنوزاً ثمينة
ليست له.
آدم زاغاييفسكي
اقرأ أيضاً