سعاد عباس
“كان نايف يروي الحكاية من فوق الركام، ومن خلفه كان الناس يحاولون إنقاذ ما يمكن إنقاذه”، نايف طفلٌ سوريٌ لاشك أنه أبكى الآلاف عام 2013 بعدما قصف صاروخ سكود حيه بأكمله، كان الطفل ذو العشرة أعوام يحبس دموعه في فيديو بينما يتلو شهادته على الجريمة.
بعد سبع سنوات، نقرأ ونستعيد الحكاية كلها، حكاية نايف أعادها أمام أعيننا راشد عيسى في كتابه “سوريو الباصات الخضر” .
العنوان بحد ذاته كفيلٌ باستعادة وجوه من ركبوا تلك الباصات وعيونهم خلف الزجاج بلا بريق ولا مستقبل حيث “من هنا يبدأ طريقٌ طويل لا أحد يعرف إلى أين سينتهي” . يتضمن كتاب الصحفي الفلسطيني السوري راشد عيسى مجموعةً مختارة من مقالات نشرها على مدى أعوام في عدة صحف ومواقع وأقدمها يعود إلى عام 2007، وفيها الجملة التي لابد أنها مازالت تخيف كل من يحمل ذاكرةً كذاكرتنا “تعالَ ورايا“ حين يقولها العسكري مهما كانت لهجته.
“جنة العماء السورية“ المنشور في المدن 2013، مقالٌ مازال دقيقاً عند قراءته الآن، يذكّر بأن “وضع السوريين الجديد الرهيب والمؤلم” هو ما دفع كثيرين منهم للتحسر على ما عاشوه في سوريا ماقبل الثورة، إنه الجحيم الحالي الممتد من خيمةٍ في الزعتري إلى اليونان إلى سجون تركيا إلى ويلات الاغتراب أو سواه، كل هذا وهذا فقط، هو ما “حوّل ماضي السوريين الرهيب إلى فردوس”.
“هنا الهامش كله”.. عبارةٌ لن تحتاج لأكثر منها لوصف سوق الأحد في بيروت، سوريو لبنان يعرفونه ويعرفون الأسواق الشبيهة به من شمال لبنان إلى جنوبه، لو كنتَ يوماً في سوق الأحد فلا بد قد أخذك الشرود من هناك إلى الشام -يقول راشد- إلى حسرة النازحين على صورهم وجدران بيوتهم ومطرزاتهم ومقتنياتهم. في “سوريو الباصات الخضر” تشرد مرةً أخرى وتتذكر حدثاً ربما بات الآن أقل أهمية بعد كل هذا الموت “سوقٌ كامل بات مخصصاً لبيع أغراض الراحلين، وبأحط الأسعار”.
يوثق الكاتب التغيير الموجع في وجدان الثائرين في مقاله “في وداع مرح الثورة” الصادر في ديسمبر 2013، تقرأ تأريخاً لذاك الفرح الشبابي المبتهج بالثورة ربما لمجرد أنها قامت، احتفالية كل فعلٍ ثائر من الأغاني إلى الهتاف إلى النكات الساخرة.. يذكرنا راشد مرةً أخرى بأنها كانت وانتهت، لم نودعها في الحقيقة، هي انسحبت من دمائنا أملاً بعد أمل.
اختار راشد عيسى أن يبدأ كتابه بمقال “وهذه هويتي” المنشور في تموز 2019، ويوثق فيه تلك المرحلة “عندما راح الفلسطيني يقدم نفسه باعتزاز كفلسطيني سوري، إن لم يكن يكتفي بسوريته أحياناً..” كان ذلك عندما اندلعت الثورة في البلاد. اليوم أيضاً ومع نشر كتابه بعد قرابة 10 سنوات على الثورة يؤكد عيسى مرةً أخرى: “هذه هويتي”، لا تضامناً ولا انصياعاً للأسباب القدرية كونه ولد وعاش في سوريا وإنما لأنه اختارها بكامل إرادته “ هويةً وقضية”.
اقرأ/ي أيضاً:
لأني أريد أن أموت وحيداً..
اعتبارات الخاسر