نيرمينة الرفاعي.
أريد أن أبتدئ قراءة هذا الكتاب من زاويتي الخاصة هذه المرّة، فأحداث حلب الأخيرة كسرت قلبي بقدر ما أثارت رعبي ممن هم “شركاؤنا” في الأوطان والبلاد.
استمعت هذه الأيام مطولاً لحديث البعض الواثق بأنَّ النظام السوري وحلفاءه يحاربون الإرهاب ويحمون “جميع” الدول العربية لأنّه دون منازع “سيد المقاومة والممانعة”، ولأنّه الوحيد الذي قهر اسرائيل، -على الرغم من أنَّه زعيم الاحتفاظ بحقّ الردّ حسب ملاحظاتي-، وهكذا وجدت نفسي على مدى الأيام الماضية أشاهد صور الدمار والجثث والعيون الزائغة والأجساد والمباني المثقوبة، وفي الخلفية يتردد صوت الموالين والرماديين وهم يؤكدون أنَّ في كلّ حرب هناك ضحايا ولا ضرر من ذلك فالأولوية الآن هي لمحاربة الإرهاب!
سألتني “صديقة”: “من أين لك المعلومات وكيف تعرفين أن الأسد مجرم حقًّا”؟
لأجد نفسي بعد خمس سنين من القتل المتواصل أضطر إلى إجابة أسئلة بديهية كهذه، ولا أعلم من أين أبدأ فأقول بكلمات متدفقة لا تتوقف: “من تاريخ حزب البعث، من تاريخ أبيه، من مجازره، من سجونه، من الناس، من قصص الناس، من أولئك الذين عاشوا تحت رحمته وشاهدوا حياتهم تنهار قطعة قطعة على يده”!
اخترت هذا الكتاب لأقدمه في هذا الوقت تحديدًا لأنني شعرت بحاجة ملحّة لتوثيق قصص هؤلاء الناس، ولا أتوقع بالتأكيد أن يتراجع “محاربو الإرهاب” عن رأيهم أو ألّا يرقصوا “لانتصارات” قائدهم، ولكنني على الأقل سأشعر بشيء من الأمل لو علمت أنَّ شخصًا واحدًا أعاد التفكير فتردد قبل أن يقدم إنسانا، -قد يكون أنا ذات يوم-، قربانًا في سبيل محاربة “الإرهاب”.
بدأت “وجدان ناصيف” بكتابة هذه الرسائل في آذار 2012 باسم مستعار هو “جمانة معروف”، وكانت تُنشر دوريًا في “بلوج”: “عين على سوريا”. وكانت مجرد محاولة لإيصال صوت سوريا إلى العالم، كما تقول، وفي النصف الثاني من عام 2013 أبدت “بوشي شاستيل- سلسلة الوثائق” رغبة بنشر الرسائل ضمن كتاب صدر عام 2014 تحت اسم “رسائل من سوريا – “Lettres de Syrie”
ومع خروج الكاتبة من بلادها عام 2014 كانت قد أكملت المئة وخمسين رسالة صدرت بالفرنسية بترجمة صديقتها “نتالي بونتان”، ثم نشرتها بالعربية بدعم من بدعم من المنظمة الأورو-متوسطية لدعم المدافعين عن حقوق الإنسان وذلك ضمن سلسلة شهادات سورية الصادرة عن دار المواطنة وأصبحت الكتاب رقم 13 ضمن السلسلة.
تحكي الرسائل يوميات الكاتبة في دمشق، تبدأ الأولى منها بوصف رحلتها اليومية من وإلى العمل مرورًا بساحة السبع بحرات، فتحكي تفاصيل اليوم حول ذلك المكان وتستذكر كيف شقّت الريح مرّة صورة الرئيس التي تغطّي ثلثي واجهة مبنى البنك المركزي، وتصفُ وجوه الناس كيف تراوحت بين الشماتة والخوف، وكيف تمّ استبدال الصورة سريعًا بأخرى جديدة من نسيج أقوى هذه المرّة.
في آذار 2012 كانت “وجدان ناصيف” المنتحلة لاسم “جمانة” تتحدّث عن العجوز الذي حاول مرّة إيقاف سائق السرفيس قائلًا: “قف، قف أرجوك، أحتاج لقضاء الحاجة”، فأجابه السائق: “عمي.. اعملها هون بالسرفيس وما تخليني وقف.. الله وكيلك بيخربوا بيتي”!، فعلى طريق “القصر” في رحلة الخروج من دمشق إلى أطرافها كانت عقوبة توّقف أي سيارة قد تكلّف الأرواح! وتحكي عن التفجيرات التي يقوم الجميع بلعن فاعلها وكلٌّ يعني من يعنيه، ويبقى الموت هو المنتصر الأكبر في المدينة التي يحاول سكّانها الحفاظ على عاداتهم القديمة فيها رغم كلّ شيء.
ومن اللافت أن الحوارات التي كانت تدور بين الناس أيامها هي ذاتها التي تتكرر اليوم في كل مكان في سوريا وغيرها، حوارات قصيرة متقطة على شكل أسئلة:
– “هلق الرئيس لو ما داعمته أمريكا كان بقي”؟
– “انت جدبة؟ ليش أمريكا بتقدر للرئيس”؟
– “عن جد شعبنا متخلف”!
– “والله العظيم ما في أحلى من شعبنا”!
وتذوب الحوارات في مأساة أمّ ذهبوا لمواساتها في ابنها الذي قتل على يد الجيش ولم يعيدوا لها جثته أبدًا، ابنها الذي اعتقل مرتين وعلامات التعذيب تشهد على جسده ما تشهد، قال لأمه يومها إن الموت أهون عليه من الاعتقال، وعندما أتى الجنود لاعتقاله للمرّة الثالثة هرب في سيارة فقصفوها ثم جرّوه جريحًا إلى دبابتهم ولم يُر له أثرٌ بعد ذلك!
في يوم من أيام نيسان 2012 كان الباص الذي يفترض أنَّه باص نقل مدني يمشي ببطء في شوارع دمشق، على أبوابه يقفُ رجال أسلحتهم مصوّبة نحو المارّة، من وراء الزجاج رجال بثياب مدنية، يقفون مهانين متعبين وأيديهم خلف ظهورهم ورؤوسهم مطأطأة، كان الجنود يريدون أن يرى المارّة المعتقلين كي يتعظوا!
لم ترحم المدينة ولا حتى أطفالها، فامتلأت المدارس بحلقات الدعم النفسي غير المعلنة في محاولة لإعادة التوازن والطفولة إلى أحمد الذي يغنّي أغانٍ مليئة بثقافة العنف والكراهية وقتل الآخر، ومحمد الذي يحكي عن جثة أبيه كما يتحدث طبيب شرعي بكل بساطة، يشير بماوس الحاسوب إلى وجه أبيه المشوه، إلى تجويفين مكان العينين، وإلى ساقيه حيث اقتلعوا ركبه، وإلى آثار المسامير على ذراعيه وصدره المشقوق، وأمل التي لا تعرف أمها إن كانت طفلتها قد بلغت أم أنَّها نزفت من رعبها عندما سقط سقف البناية المجاورة تحت قصف الدبابة..
أمّا الجدران التي تلوّنت عام بعبارات بداية الثورة 2011 فقد أصبحت لوحات تحمل الألوان فوق الألوان فوق الألوان، كان الجنود والشبيحة لا ينسون تسجيل “انتصاراتهم” وراءهم كاتبين: “الأسد أو لا أحد”، فيأتي أحد الشباب ليلاً ويحوّل العبارة إلى “الأسعد أو لا أحد”، فيرجع الأمن ويحاول تصحيح العبارة مجددًا فلا ينجح فيطلي العبارة كاملة بالأسود، وهكذا يستمر الكرّ والفرّ بين الشبيحة و”الرجل البخاخ” الذي أصبح لقبًا متداولًا للشباب الثائر الذي ما زال يقاوم الطغيان بطريقته الذكية في تحوير العبارات على جدران المدينة.
تحكي ناصيف عن زميلها في العمل، مازن الذي دخل الغرفة يومًا غاضبًا شاتمًا المعارضة والإرهاب والمسلحين وهو يقول: “بيجي ع بالي حط حزام ناسف وانزل ع شي مظاهرة فجرهن كلهن، سوريا تلاتة وعشرين مليون، يموت منهم طنعش شو يعني”؟
يضع من في الغرفة يده على قلبه أو فمه، فمعظمم سيكون من “الطنعش مليون” غير المهمين! هنا تحديدًا في هذه اللحظة أتذكر أنا “الصديقة” التي قالت لي قبل يومين: “شو يعني؟ هاي حرب وفيها ضحايا، عادي”!
وفي تلك الفترة التي كان يخطب فيها الأسد ويلقي كلماته الطويلة جدًا، كانت أرواح الشباب السوري توضع أمام المعادلة الصعبة: “إمّا الجيش أو تقتل، إمّا قاتل أو قتيل”!
وكي لا ننسى حكاية وليد أيضًا، وليد الذي ظهر على قناة “دنيا” وهو يعترف بأنَّه رئيس عصابة مسلّحة وبأنَّه يتلقى الأموال من أمير قطر كي يوزعها على زملائه المسلحين، وليد الذي خيرّوه بعد أربعين يومًا في المنفردة بين الظهور على التلفاز أو إيصال صورة جثته إلى أمّه فاختار التلفاز ولا يتذكر سوى أنَّه تفوّه بما لقّنوه.
في حزيران 2012 تتحول نبرة رسائل ناصيف قليلاً لتصبح مشبعة بالخوف أكثر من ذي قبل، طلقات الرشاشات لا تهدأ وعسكري يفتخر بأنَّه اغتصب امرأة أمام زوجها وأطفالها وآخر يتسلّى بقنص القطط ليلاً إذا لم يجد بشرًا، بكاء الأطفال وترّحم الناس على أيام القصف المدفعي بعد أن امتلأت السماء بالطائرات المقاتلة، ورنا التي هربت من حمص إلى دمشق وهي تروي كيف كان الجنود على الحواجز يفتشونها ويرفعون ثيابها قطعة قطعة على الملأ ثم يدوسونها..
وفي تموز انقسمت دمشق إلى جزئين: “الأسد أو لا أحد” و”الموت ولا المذلة”، تصفها الكاتبة بعبارة “المدينة المقطعة الأوصال”، ولكنَّها تقول بعد صفحات من الألم: “سنبقى نحن السوريين ملح الأرض وزادها، نتقاسم أمتارًا في الأرض تحوي جثثنا جميعًا”!
بلغتها المباشرة المتدفقة البسيطة تستذكر ناصيف أحداث أيلول وقيام الجنود بجمع الجثث في الشاحنات الكبيرة بعد نبشها من الحدائق، وثرثرة الناس وتساؤلاتهم حول أين تذهب الجثث، وهل هو نوع من الانتقام المضاعف أم ماذا؟ وانتشرت الأحاديث عن ماكينات في الساحل تفرمها وتلقيها في البحر، أو عن حرقها ورميها في مكب القمامة، تقول: “ربما لا يريدون للجثة قبرًا عليه شاهدة، شاهدات القبور تبقى شاهدة على جريمتهم حتى يغرب الزمان”..
على مرّ الأيام كان إحساس الألم يتعاظم، يرافقه شعور العجز، متزامنًا مع الكثير من ملفّات “الوورد” البيضاء التي أغلقتها الكاتبة وهي تجيب على سؤال الحاسوب إن كانت ترغب بحفظها ب “لا”، محاولة ترتيب الأوراق في ذهنها بعد أن استطاع الأسد خلط الأوراق أمام المجتمع الدولي بنجاح، فاستبدل كلمة “ثورة” بكلمة “حرب”، وكلمة “شعب” بكلمة “سنّة” وكلمة “نظام” بكلمة “دولة”.
تتوالى الرسائل حتى تاريخ 28 نيسان 2014، وتختلط في السرافيس أغاني علي الديك بأغنية أخرى تقول: “متل الطلقة الروسية إذا ما قتلتي بتشلّي”، وكانت شاشة التلفزيون السوري تبثُّ خبرًا عاجلاً يفيد بترشح الرئيس لولاية جديدة!
اليوم، 17 كانون الأول من عام 2016، أنا أشعر بالألم والعجز أيضًا، وحاسوبي يخبرني أنني تجاوزت عدد الكلمات المتاحة لهذه القراءة التي حاولت بها أن أوّثق نزرًا ضئيلاً مما مرّ على رأس السوري الثائر الذي ما زالت تمزقه صراعات النظام المجرم المستبد والاطراف المتقاتلة الأخرى التي لا دين لها سوى هواها، ولكن قبل أن أنهي أريد أن أخبركم عن الأم التي وصلها هاتف من مجهول وهو يقول لها: “ابنك فطس، ابنك فطيسة، بقديش بتشتري جثته”؟ لتجيبه: “ابني شهيد” وتطلق زغرودة، وحين سألوها لم زغردت قالت وهي تبكي بحرقة: “كنت بدي أقهره متل ما قهرني، كنت بدي أٌقهره”!
سأنهي كلامي هنا بزغرودة.