عبدالله مكسور*
حين نقرأ “امرأة في برلين” الصادر عن منشورات المتوسط في ميلانو، نشعر حقيقة بتلك القذيفة التي تهبط فجأة لتقضي على ما تبقى من حياة، نُدرك لهاث الحريص على ما تبقَّى من فضةٍ في البيت وهو يردمها تحت التراب.
يضع القارئ في عقله الباطن فروقاً واختلافاً ثقافياً بين الروس والألمان. بعد قراءة هذه اليوميات التي لم تُكتَب كيوميات شخصية فقط، بل مذكرات مدينة كاملة، يُمكن حملُ قلمٍ وورقة بيضاء ورسم تأثير الحرب على الإنسان والمجتمع معاً.
إنها مذكرات الصحفية مارتا هيلرس التي ولدت في كريفلد عام 1911م، وعملت كصحفية في برلين، كما أنجزت بعض الأعمال للحزب النازي لكنها لم تكن عضواً فيه، تروي فيها دون ذِكر اسمها على غلاف الكتاب، عن يوميات برلين خلال ثمانية أسابيع من وجود الاحتلال الروسي فيها.
يتناول الكتاب، الأسابيع الثمانية بدءاً من بعد ظهر الجمعة 20 إبريل عام 1945، في الساعة الرابعة تماماً، اليوم الأول من المعركة قرب برلين؛ “ليس هناك أي شكٍّ في ذلك، الحرب تقتربُ من برلين”، بهذه الكلمات تخطَّ الكاتبة أولى سطور مشاهداتها وتجربتها الشخصية، ثمّ ماحدث مع النساء اللواتي تعرضن للاغتصاب، بكثير من التفاصيل المؤلمة. وتغوص في الأيام الأولى حول فكرة اعتياد عدم الاعتياد على مكان، عدم الارتباط بالجغرافيا، البحثُ عن فرَحٍ وسط المعاناة، “الجميع يتمنى لو أنَّ هتلر أُجهِضَ وهو جنين قبل أن يولد”، هذه نكتة مثلاً تمر في سردٍ أخَّاذٍ عن تجمُّع السيدات في قبو، القبو هنا أشبه بالمقبرة فغياب إشارات الحياة عنه جعله أقرب للقبر منه إلى الملجأ.
السردُ المتصل:
قصصٌ في متتالية سردية متصلة عن تعامل النساء مع النساء، عن تعامل الرجال مع النساء، الجنود مع الجنود، ماحدث وردَّات الفعل كاملةً، وسائل الاعلام التي صارت جزءاً من المشهد، المدينة التي تنهار تحت أقدام العسكر.
إلى جانب السرد اليومي تتضمن المذكرات تلميحات فلسفية تضع القارئ في خضم الحياة الثقافية عقب الحرب حتى لحظة الاجتياح الروسي للعاصمة برلين، فضلاً عن تقديم أنماط السلوك خلال الأزمات لشخصياتٍ متنوعة من ثقافات عديدة برزَ منها الألمانية والروسية.
رواية الجوع:
تضع المؤلفة أمام أعين القارئ قذارة الحرب ووضاعتها، فجولاتها هي التي تمنح المُنتَصِر فيها حصارَ المغلوب، التحكُّمَ فيه، لعبةُ القوة والعزيمة هنا لايمكن تحديدها فالزمان مفتوحٌ والمكان مخنوق. تستعرض الكاتبة بكثير من الحيادية وليس الطُهرانية، فكرة الجنس مقابل الغذاء، هذه المعادلة التي أوجدَها جنود المحتلّ لنساء برلين كي يبقين على قيد الحياة، بحث الضحية عن آليةٍ لحمايةِ نفسها، ولايهم أخلاقية الطريقة، هذه المشاهد المصفوفة بجانب بعضها هي ذاكرة المرأة التي تعرَّضت لفراق زوجها بعد عودتِه من جبهات أخرى إلى برلين.
صوَّرت الكاتبة حالة الجوع كجزءٍ أساسي من المدينة، “بالأمس جاءت لوتس ليمان ذات الأربعة أعوام، جاءت وأمها تمسك بيدها، ظلَّت واقفة أمام العربة، وتحدِّق بالحصان، ثم سألت: “ماما، هل يمكنك أكل هذا الحصان؟”.
في مقدمة المترجمة والروائية العراقية ميادة خليل، التي نقلت المذكرات من الهولندية إلى العربية، تصف رحلة الكتاب نحوها ورحلتها نحوه، فقد تجاهَلَته حين رأته في المرة الأولى على رفٍّ للكتب المستعملة في المدينة الهولندية حيث تقيم، بعد قراءة صفحة أو اثنتين منه تركته خوفاً من فكرة الحرب، بعدها بأسبوع تعود بفعل القدر إلى ذات المكان لتجد الكتاب مكانَه وكأنه ينتظرها، هذه المرة حملتهُ بدأت القراءة فيه، تقول: “عندما انتهيت من الكتاب أخيراً، من قراءته وترجمته إلى العربية، لم ينته، بالنسبة لي، بدأ تأثير هذا الكتاب منذ اللحظة التي قرأتُ فيها آخر صفحة، وظلَّت مفتوحة حتى كتابةِ هذه الكلمات. الحربُ لا تنتهي، وكذلك الأعمال العظيمة”.
أسرار النشر
في مقدِّمته كتب الناشر الألماني للكتاب: “أريد أن أكرر ملاحظة، قالتها لي الكاتبة عام 1947، “لا أحد من الضحايا يمكنه حمل معاناته، كتاجٍ من شوك”، قالت: “أنا مقتنعة، بأن ما حصل لي، كان نوعاً من تسديد الحساب” البحثُ عن العدالة وسط هذه الوحشية كلها، يبدو لي هو السمة البارزة لهذه المذكرات، إنه “وثيقة إنسان”، وليست “وثيقة سياسي”، وهكذا نجتِ الكاتبة من الدوامات، هكذا استطاعت –الانتصار سراً- الصعود من أعماق الدوامة، ليس بمساعدة إحدى قوى الطبيعة، لكن لأنها –رغم إخضاعها- كانت الأنا العميقة داخلها، لاتقدَّر بثمن”.
“امرأة في برلين” مذكرات امرأة مجهولة، صدَر لأول مرة باللغة الانكليزية عام 1954، ثم بالألمانية، اللغة الأم التي كُتِبَت بها المذكرات عام 1959، ثم بالترجمة الهولندية عام 1957، لتكون هذه اليوميات بنسختها العربية، بعد ذلك بأكثر من ستين عاماً نتيجة صدفةٍ قادت المترجمة إلى مكتبة منسية حيث كان الكتاب غافياً على أسراره.
عبدالله المكسور – صحفي و روائي سوري مقيم في بلجيكا
مواضيع ذات صلة: