بقلم محمد عبيدو*
عبر هذه السلسلة من المقالات التي يكتبها الكاتب والناقد السينمائي السوري محمد عبيدو سنسلط الضوء على تفاصيل السينما الألمانية تاريخها وواقعها واهم أفلامها ومخرجيها. وهذه المقالات ستنشر في كتاب سيصدر قريباً
تعتبر السينما الألمانية من أعرق السينمات في العالم وأكثرها عمقاً وجدية عبر تاريخها الحافل، فقد بدأت السينما الألمانية بالعرض قبل الإخوة لوميير حيث أن الإخوة سكلادانوفسكي قاموا بتصوير فيلم “الحديقة الشتوية” وعرض للجمهور في مسرح برلين بداية تشرين الثاني 1895 (أي قبل شهر من عرض الإخوة لوميير التاريخي في الجراند كافيه).
استغل قيصر ألمانيا هذه الوسيلة مبكراً، وأعطى أوامر بإخراج أفلام وثائقية تمجد تاريخه، ومن هنا عُبّد الطريق للاستعمال السياسي لهذا الفن، وقد عرف هذا الاتجاه نمواً متزايداً نهاية الحرب العالمية الأولى، فضلاً عن وصول السلطة آنذاك إلى قناعة مفادها أن السينما تشكل الدعامة الاولى للدعاية السياسية. فاتحد أصحاب المصارف والصناعات الكيميائية والتسليح، لتأسيس شركة (يونيفرسوم فيلم) العام 1917، بصفة منتج مهيمن على الفيلم الالماني، حيث تم حظر الأفلام الفرنسية والإنكليزية والأميركية باعتبارها أعداء لألمانيا أثناء الحرب، فاضطرت صناعة السينما الألمانية إلى زيادة الإنتاج الذي وصل إلى 300 فيلم سنوياً، فازدهرت المعالجات الإخراجية، وتنوعت الموضوعات، فظهرت أفلام ممتازة ومخرجين أكفاء يقف على رأسهم “أرنست لوبتش”، الذي أخرج مجموعة من الأفلام منها: كارمن، الأميرة ذات المحار.. وبرز ما أطلق عليه أفلام “سينما فيمار” التي اعتبرها العالم واحدة من أغنى وأكثر الفترات ابتكاراً في تاريخ السينما.
بعد الحرب العالمية الأولى والمشاكل الاقتصادية التي تخبّطت فيها الصناعة الألمانية، تخلصت الدولة من تسيير استديوهات الإنتاج لفائدة أشخاص آخرين، ومن هنا بدأنا نحسّ بتيار التغيير يهب على السينما الألمانية باتجاهها نحو تصوير الحالة الاقتصادية والاجتماعية والنفسية التي كان يعيشها المواطن الألماني.
السينما التعبيرية:
بدأت هذه السينما بالظهور بعد الحرب العالمية الأولى، واستوحت تقنياتها واتجاهاتها من المدرسة التعبيرية، وهي حركة فنية ظهرت في عشرينيات القرن الماضي وشملت فنون المسرح والتصوير والرسم والنحت والتصميم المعماري والسينما أيضاً، وهي تعتمد على توظيف الخيال بشكل خارق للعادة، في تصوير للحظة ما بعيون ناقدة للواقع المعاش، إنها الشاشة الشيطانية. وكان افتتاح فيلم “خزانة الدكتور كاليغاري” للمخرج ” روبرت وين ” في شباط من عام 1920 يوافق بداية السينما التعبيرية، وفيه وظّف “روبرت وين” الضوء والرسوم التشكيلية المبالغ بها، مع توظيف الظلال والمرايا في تحقيق واقعي للازدواجية التي تعيشها الشخصية. جرأة التجريب وأسلوبه بالتمثيل، تجاهله الواضح للواقعية ولغته البصرية المبتكرة، والتجريد والتحريف والتفكيك الصادم أكسبه هويته كإنتاج ينتمي للتعبيرية.
ثم اتى فيلم ” نوسفيراتو” 1922 للمخرج “فردريش وليم مورناو” عبارة عن سيمفونية من الرعب، بدأت رحلة مشابهة لتأريخ عالم غريب موصوم بـ”القتل الجماعي” مثلما أعلن العنوان الداخلي للفيلم. ورغم أن أحداث الفيلم تدور في بلدة ألمانية صغيرة، ويعتمد على أسطورة مصاصي الدماء القديمة، إلا أنه يرمز إلى تجربة الموت الجماعي أثناء الحرب العالمية الثانية.
سينما الصوت:
جاءت المحاولات الأولى لظهور الصوت في الفن السينمائي بإنتاج أفلام روايات خيالية، اشتهر بها المخرج الألماني “أريخ مومر”، في فيلمه (طريق الفردوس)، وكذلك ظهر المخرج “إريك شاريل” من خلال فيلم (المؤتمر يمرح)، وهو فيلم هزلي كوميدي، وظّف النكات الماجنة في بنية السيناريو. كما كان لظهور السينما الناطقة في ألمانيا تأثير كبير في إنجاز عدد من روائع السينما العالمية مثل فيلم “الملاك الازرق” للمخرج “جوزيف ستيرنبرغ” مع الممثلة الأسطورة “مارلين ديتريتش”، باعتباره لوحة فنية فائقة الجمال. ورافقت هذه الفترة ظهور المخرج “بابست”، وهو يحاول عكس المآسي والألم من خلال فيلمه (أربعة في فرقة المشاة)، في حين عاد “فريتز لانغ” من جديد في فيلمه (الملعون).
جانب ظهور الصوت صعود نجم هتلر وانتشار النازية، وسيطرتها على كل شيء. حيث تغير نمط الإنتاج السينمائي في ألمانيا، فتصاعد القوى النازية أدى إلى هجرة العديد من الفنانين السينمائيين المهمين العاملين في ألمانيا حيث غادر أكثر من 1000 شخص كانوا يعملون في المجال السينمائي هرباً من قمع النظام وتضييق مجال التعبير والسجن والقتل، ومن هؤلاء “فريتز لانغ” و”روبيرت سيودماك” و”مايكل كيرتز”. لقد خسرت ألمانيا آنذاك نخبتها المثقفة في لحظة وهي التي كانت تعتبر المنافس الوحيد للسينما الأمريكية.
السينما الإيديولوجية:
اهتم وزير دعاية النازية “غوبلز” بالسينما بوصفها آلة حرب دعائية، وقد استلمت هذه المهمة المخرجة “ليني ريفينشتال”، وابتداء من سنة 1934 قامت بإخراج عدة أفلام دعائية للنازية من أهمها فيلم (انتصار الإرادة) الذي يعتبر أكبر فيلم دعائي في تاريخ السينما العالمية. هذا النوع من الأفلام كان يصور انتصار الجنس الآري في جميع المجالات.
بانتهاء الحرب العالمية الثانية وجدت صناعة السينما الألمانية نفسها في مواجهة إكراهات دمار آلة الحرب وفساد الاختيارات السياسية. المخزون النفسي والسياسي لمخلفات الحرب الكونية كان كافياً لإعادة بعث هذه الصناعة من رحم المعاناة، فكانت إعادة تدوين التاريخ سينمائياً من خلال تسليط الضوء على جرائم النازية وما حملته معها من معاناة خلدتها الذاكرة الفردية والجماعية، أو إعادة الرصد لما تبقى من أرشيفات مبعثرة في أركان جغرافيا ألمانيا الحديثة.
*صحفي وناقد سينمائي سوري
خاص أبواب
اقرأ/ي أيضاً: