قليلاً ما نجد بحثاً يتصف بالحيادية والعمق لرصد أطوار الكتّاب في المنطقة العربية. هذا الحوار، مع الدكتور والباحث خالد زيادة، يتتبّع أسئلة أُولى، محاولاً الإجابة عن “دور أصيل” لمثقفٍ كان فقيهاً وكاتباً في آن.
بيروت/ علي جازو*
ما الذي دفعك إلى تغيير عنوان الكتاب من “الكاتب والسلطان” حرفة الفقهاء والمثقفين الصادر عام 1991، إلى “الكاتب والسلطان” من الفقيه إلى المثقف في الطبعة الثانية عام 2017؟
كما لاحظت فقد مر وقت طويل بين الطبعة الأولى والطبعة الثانية، وهو وقت كاف للتفكير مرارًا بالعنوان، عند صدور الكتاب في طبعته الأولى وجدت صعوبة في اختيار العنوان، لذا أردته شاملاً لموضوعاته أي الكاتب والفقيه والمثقف، والواقع أن التغيير ليس كبيرًا، أي لم أجرِ تعديلاً على اشتمال العنوان لموضوعات الكتاب، فهناك السلطة ممثلة بالسلطان، وهناك أنواع من المتعاطين بحرفة الكتابة: كاتب الديوان الذي يخدم الدولة في الشؤون المالية والعلاقات الخارجية، يُضاف إلى ذلك وظيفته كمستشار للسلطان إذا بلغ رتبة عالية في سلّم الإدارة، وهناك الفقيه الديني الذي يقوم بالوظائف الدينية كالامامة والخطابة والتدريس، ثم هناك المثقف وهو شخصية جديدة لم تظهر إلا في القرن التاسع عشر، ولم تتبلور وظيفته ودوره إلا في نهاية القرن المذكور. وهو إلى هذا الحد أو ذاك وريث الكاتب لجهة علاقته بالسلطة أو بفكرة الدولة، وهو وريث للفقيه لجهة علاقته بعامة الناس. التعديل الذي أجريته أرى أنه طفيف ويتعلق بمنع الكاتب استقلالية أكبر، ففي العنوان الأول يبدو كأنه تابع للسلطان فحسب.
– يبدو أن الصراع على دور العلماء الديني التعليمي- الاجتماعي قد أخذ بعدًا فقهيًا مذهبيًا، ما السبب وراء ذلك التحوّل ، هل هو اداري تنظيمي محض، أم أنه إعادة توجيه تكاد تكون قسرية لدور العلماء؟
لا بد لي من توضيح بأن كتابي هذا يقع من الناحية الزمنية بين مطلع القرن السادس عشر ونهاية القرن التاسع عشر، اما اختيار هاتين اللحظتين، إذا جاز التعبير، فيرجع إلى التبديل الذي طرأ مع بداية القرن السادس عشر، وتحديدًا إلى سنة 1516-1517، السنة التي هُزم فيها المماليك وتوارت سلطتهم، وحلّت في بلاد الشام ومصر الدولة العثمانية، التي أدخلت تقاليد جديدة في المؤسسات الدينية والادارية.
إن أحد أوجه التغيير التي أدخلها العثمانيون تتعلق بأوضاع العلماء والمؤسسة الدينية، فقد كان العلماء في الحقبة المملوكية يحتلون مواقع مميزة في هرم السلطة والمجتمع، فقد كانوا شركاء في السلطة وقادة المجتمع المحلي بالإضافة إلى كونهم قد أضفوا شرعية على النظام المملوكي، وحين سيطر العثمانيون أخفضوا من شأن العلماء وسلبوهم امتيازاتهم، وما عادوا شركاء في الحكم. كان العلماء في سوريا ومصر في الحقبة المملوكية من أبناء البلاد أي أنهم عربًا، أما العثمانيون فقد عيّنوا قضاة من غير العرب وخصوصًا الأتراك، الذين كان يطلق عليهم، حسب كتّاب تلك الفترة اسم “الروم”. ومن هنا استطيع القول بأن الشعور العربي المحلي قد تعزز على نطاق ضيق. والحجة التي اتخذها كتاب تلك الفترة من المؤرخين خصوصًا آنذاك هي احلال المذهب الحنفي، مكان المذهب الشافعي الذي كان الأكثر انتشارًا في سوريا ومصر. وكانت هذه الحجة إحدى الطرق لانتقاد التقاليد التي أحلّها العثمانيون في مجال القضاء خصوصًا.
وينبغي أن أذكر في هذا المجال أنه لم يحدث أي نزاع شافعي-حنفي، فقد اقتصر الأمر عند نجم الدين الغزي في “الكواكب السائرة” على انتقاد هذه التقاليد وانتقاد من قلّدهم من العلماء المحليين، أم عند ابن اياس في “النجوم الزاهرة” فنجد لديه وضوحًا أكبر في ذكر انهيار أوضاع العلماء المصريين الذين فقدوا الحظوة التي كانت لهم أيام المماليك.
الأمر الآخر الذي أوّد أن اذكره في هذا السياق أن العلماء العرب قلما انتسبوا إلى النظام المدرسي العثماني، وقلة منهم الذين ذهبوا إلى استامبول للدراسة في مدارسها الشهيرة. ولم يتبن علماء مصر وسوريا التراتبية العلمية التي كانت تترواح بين سبع واثنتا عشرة مرتبة علمية وهو النظام المدرسي الذي استقر في النصف الأول من القرن السادس عشر.
– لماذا ذكرت في بحثك وبدأته من دور الفقهاء في الدولة العثمانية، ولم تعد إلى الوراء منذ تشكل الدواوين على مختلف عصور”الخلافة” الاسلامية (الحلفاء الراشدين ثم الأمويين ثم العباسيين..) رغم أنك اشرت إلى انفصال كتاب الدواوين عن علماء الفقه، مما شكل دلالة على انفصال الادارة السياسية مبكرًا عن النظام الديني؟
يستحق السؤال لأهميته إجابة مسهبة، وخصوصًا فيما يتعلق بمسألة العودة إلى المراحل التأسيسية، أي منذ دولة المدينة مرورًا بالدولة الأموية وصولاً إلى الدولة العباسية، هي عودة ارادية تريد أن تنظر إلى التاريخ باعتباره إتصال لا انقطاع فيه، وهي نظرة هيغلية مثالية تنظر إلى التاريخ وكأنه مدرك لمساره في سبيل تحقيق فكرة أو هدف. وأنا أميل إلى النظر للتاريخ باعتباره مراحل وحقب، وهذا لا يلغي النظر إلى المراحل الطويلة من التاريخ. وبخصوص موضوعنا، فإن تبلور المؤسسات الدينية والمدرسية والادارية لم يحدث إلا في الحقبة السلجوقية، أي بعد خمسة قرون من تأسيس دولة المدينة بعد ظهور الاسلام. صحيح أن بعض الوظائف ظهرت في القرن الأول الهجري، كوظيفة الفقيه والقاضي والمحتسب. إلا أن هذه الوظائف قد تموضعت بأشكال مختلفة في هرم السلطة عبر حقب التاريخ.
اما فيما يتعلق بفصل الديني عن السياسي، فإنني أميل إلى الرأي القائل بأن هذا الفصل، أو بمعنى أدّق: انفصال الشأن السياسي الاداري عن الشأن الديني كان قائمًا منذ أوقات مبكرة، والجاحظ (توفي255هـ/868م)
في رسالته “ذم أخلاق الكتّاب” يبيّن لنا طرفًا من انفصال الوظائف والأدوار، بين الكتّاب والفقهاء. لكننا نحتاج إلى دراسات متخصصة تبيّن لنا شكل السلطة وطرائق ممارستها، في تلك الأوقات المبكرة من تاريخ الخلافة.
ولكن هذا الانفصال بين الديني والاداري، يبدو لي أكثر وضوحًا في الفترة المملوكية. وبسبب وفرة المصادر والدراسات يمكننا أن نقيم الدليل على ذلك، في الفترة المملوكية كانت الطبقة العسكرية تمارس السلطة وتتولى شؤون الأمن والحرب وتشرف وتشارك في الاقتصاد، وكان العلماء قد ارتفع شأنهم كممثلين للشريعة وكقادة للمجتمع المحلي، ومع ذلك فإن هذا الفصل في المؤسسات والتخصص في الوظائف لم يكن باتًا او ناجزًا أو كاملاً، كان هناك تداخل بين المهمات والوظائف، وعلى سبيل المثال شغل بعض العلماء وظائف في الادارة والجيش.
أما بالنسبة إلى كتاب” الكاتب والسلطان”، فقد أردت من خلاله أن أتبيّن جذور”المثقف” العري. ووجدت أن مرحلة الانتقال من الدولة المملوكية إلى الدولة العثمانية هي مرحلة كاشفة عن التبدّل الذي طرأ على المؤسسات، خصوصًا أن التجربة العثمانية قد دفعت فصل المؤسسات إلى مدى غير مسبوق، صحيح أننا نجد مؤثرات سلجوقية في بناء مؤسسات الدولة العثمانية في أوقات مبكرة من التأسيس، إلا أننا سنجد أيضًا مؤثرات بيزنطية أيضًا. ومع العثمانيين برزت مؤسسة شيخ الاسلام والنظام المدرسي التراتبي، وأصبح لجسم الكتاب مهمات تناسب دولة امبراطورية، فلا تقتصر مهمات الكاتب على شؤون المالية ولكن الشؤون الادارية الخارجية. أضف إلى ذلك أن الدولة العثمانية كانت دولة الأرشيف التي أتاحت وتتيح للباحثين فائض من الوثائق التي يمكن استخدامها في دراسة الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الخ.
– أشرت إلى تنوع مهمات الكاتب وذكرت مثالين من مصر عثمان نور الدين والطهطاوي وأضفت اليهم علي مبارك. لكن هذه المهمات في المجمل لا توحي بوجود دور مستقل للكاتب. وأن الاستقلال بدأ متاخرًا عندما أخذ مفهوم جديد يتبلور وهو”المثقف” متى يمكننا تحديد لحظة الانفصال –الاستقلال النوعية هذه، وما أبرز علاماتها؟
من المفيد أن نبدأ الحديث عن عثمان نور الدين، وهو شخص لا تذكره المؤلفات التي تتحدث عن بدايات النهضة المصرية في زمن محمد علي باشا، وهو مثل العشرات من الأشخاص الذين عملوا في تلك الفترة في خدمة دولة وإدارة وجيش محمد علي، فقد كان أول من أوفده الباشا إلى ايطاليا ليكتسب خبرة في مجال العلوم العسكرية وكان ذلك عام 1809، وبعد فترة تدريب في ايطاليا انتقل إلى فرنسا، وعاد إلى مصر بعد ثماني سنوات. انه مثال لرجال دولة محمد علي، فقد شارك في تأسيس الجيش النظامي، كما ساهم في تأسيس أول مطبعة عام 1821، وأول مدرسة، وأسس مكتبة متعددة اللغات، وساهم في تأسيس مدرسة المهند سخانة ودرّس فيها، وفي نفس الوقت أصبح ضابطًا كبيرًا في الجيش، كما عُهد إليه تنظيم البحرية وقاد الأسطول في حصار عكا.
انه نمط جديد من الذين ساهموا في النهضة العملية التي أسس لها محمد علي باشا. وهو النموذج الذي سيحل مكان الكاتب الديواني، بعد أن حلّ الباشا جهاز الكتّاب والمحاسبين الذي عمل خلال عقود طويلة في خدمة المماليك، كما أنه النموذج الجديد للعسكري النظامي الذي حلّ مكان أغوات المماليك، بالإضافة إلى دوره في التعليم العسكري أو المرتبط بالخدمات العسكرية.
وإذا كنت قد أسهبت في الحديث عن عثمان نور الدين، فلأنه نموذج لرجال دولة محمد علي والذين أسهموا ببناء المؤسسات على اختلاف أنواعها، وهم شبه مجهولين، بالرغم من الدور التأسيسي الذي لعبوه في تلك الفترة، الذي برز في فيها نمط جديد من رجال الدولة الذين يجمعون بين الوظائف العسكرية والوظائف الادارية والتعليمية، وهذا النموذج سنجده في استامبول في فترة التنظيمات، التيث قامت على أكتاف رجال الادارة. أما الطهطاوي، الأكثر شهرة والذي يعتبر رائد من رواد النهضة، فإنه كان مصريًا وكان عثمان نور الدين تركيًا، وكان الطهطاوي أزهريًا، ولم يوفد في البعثة ليكتسب خبرة عسكرية فكانت مهمته امامًا للبعثة التي أوفدت إلى باريس عام 1826. إلا أن شهرة الطهطاوي ترتبط أولاً بكتابه “تخليص الابريز في تلخيص باريز”، والذي تضمن اشارات إلى المدينة الأوروبية والدستور وتقييد صلاحيات الملك بعد ثورة 1830 التي شهدها، والوظيفة التي شغلها الطهطاوي بعد عودته من باريس عام 1831، كانت تربوية بالإضافة إلى الترجمة وتأسيس مدرسة الألسن. والواقع أن دور الطهطاوي البارز قد لعبه في فترة حكم الخديوي اسماعيل في العقد السابع من القرن التاسع عشر حين كتب “المرشد الأمين في تربية البنات والبنين“، و “مباهج الألباب المصرية في مناهج الآداب العصرية”. ان الطهطاوي مثال للنهضوي الذي اتصل بمعارف أوروبا وروّج للأفكار الحديثة في التربية والوطنية والدستور. أما علي مبارك فهو يجمع ما بين عثمان نور الدين ورفاعة الطهطاوي، فهو مصري تلقى تعليمًا في عداد بعثة الأمراء التي كان فيها الأمير اسماعيل الذي سيصبح خديوي مصر والذي سيخدمه مبارك في العديد من الوظائف والمناصب. فكان عسكريًا واداريًا ومؤلفًا ومؤسسًا لدار العلوم ووزيرًا وداعيًا إلى التحديث.
إنّ ما يجمع بين هؤلاء أنهم نتاج مشروع النهضة الذي أسسه محمد علي وتابعه حفيده اسماعيل باشا(1863-1879). إن الصفة المشتركة بينهم هي خدمة لدولة والعمل ضمن مؤسساتها، وهذا يشبه ما حدث في الدولة العثمانية في نفس الفترة، بل في فترة سابقة أيضًا. ذلك أن مبدأ التحديث والأخذ عن الغرب وتحصيل خبراته كان في الأصل مرتبط ببناء عسكرية نظامية بعد إخفاق العسكرية التقليدية. من هنا تنوّع المهمات التي أنيطت بهؤلاء الرجال، بين المهمات العسكرية والادارية والتعليمية. وبهذا المعنى فإن هؤلاء الرواد كانوا في نفس الوقت رجال تنوير، كان لهم تأثيرهم في بناء المصارف الحديثة والترويج للأفكار التي تعرفوا اليها في أوروبا. هؤلاء التنويريون هم آباء المثقف الذي وُلد في كنف مؤسسات الدولة ومدارسها ومعاهدها وعمل في خدمة اداراتها. هذا النمط من المثقف الذي عرفته مصر، هو غير التنويري الذي ظهر في لبنان والذي سيتحول سريعًا إلى المثقف الحديث.
لنأخذ على سبيل المثال ناصيف اليازجي(1800-1871) وهو سليل عائلة من الكتّاب الذين يعملون في خدمة الأمراء والحكام المحليين(وكلمة يازجي في التركية تعني كاتب). وقد خدم ناصيف الأمير بشير الشهابي حتى عام 1840 بصفة كاتب في ادارته، وبعد نفي الأمير أصبح بلا عمل، فاتصل بالمرسلين وعمل في ترجمة الكتاب المقدس، ثم دعاه بطرس البستاني إلى التدريس في المدرسة الوطنية ثم درّس العربية في الجامعة الأميركية. إن ارث اليازجي هو لغوي وأدبي ارتبط بالتدريس والترجمة ومعاناة اللغة، وهو مثال للكاتب الذي فقد وظيفته وتحول إلى حرفة اللغة والأدب والتدريس. ان مثال النهضوي في لبنان هو بطرس البستاني(1819-1883)، الذي اتصل بالمرسلين الأمريكيين وعمل مع ناصيف اليازجي في ترجمة الكتاب المقدس وعاونهم في الترجمة مصطفى الأسير الأزهري. لم يخدم البستاني في إدارة ولم يكن كاتبًل لأمير، ولكنه كرّس حياته للتعليم وإنشاء الصحف وتأسيس المدارس والترجمة وتأليف الموسوعات والمعاجم. كان داعية وطنية، وموسوعتة (دائرة المعارف) أرادها تعبيرًا عن العلوم والأفكار الحديثة.
مع انتصاف القرن التاسع عشر، وفي العقدين اللاحقين خرّجت المدارس الأهلية(الوطنية) في لبنان، والمدارس الارسالية وبشكل خاص الكلية الانجيلية التي ستصبح الجامعة الأميركية (1864) عشرات من المتعلمين الذين تلقوا اللغات والمعارف الحديثة بما في ذلك علوم الطب والفيزياء وغيرها. وقد عمل بعضهم على إنشاء الصحف وممارسة التدريس، ألاّ أن الحقل اللبناني كان ضيقًا فهاجر العشرات منهم إلى مصر وبعضهم إلى المهاجر البعيدة.
في مصر التقى النمطان من المتعلمين(المثقفين) النمط اللبناني الذي لا يرتبط بالادارة أو السلطة، والنمط المصري الذي كان فيه المتعلمون يتخرجون من مدارس الدولة ليخدموها فيما بعد. في تلك الفترة من العقدين السابع والثامن من القرن التاسع عشر، وُلد “المثقف“.
كان الروّاد الذين ذكرنا أسماءهم آباء للمثقف الذي ظهر نتيجة وقائع وأحداث: إعلان الدستور العثماني عام 1876، ثم الغاءه، وثورة عرابي عام 1881، والاحتلال الانكليزي لمصر. لقد أدّت هذه الوقائع إلى ولادة السياسة والرأي العام ومفاهيم الحرية والوطنية.
في أعقاب إلغاء الدستور من جانب السلطان عبد الحميد عام 1877، نشأت حركة مطالبة بعودة الدستور، الأمر الذي عنى أن تقرير مصير الأمة لم يعد بيد العاهل، بل أصبح الرأي العام (الذي يقتصر آنذاك على النخب المتعلمة) هو الذي يشارك في تصور النظام السياسي، فنشأت حركة مطالبة بالدستور، وفي مصر وفي أعقاب الاحتلال الانكليزي برز مفهوم الوطنية. وحول مفاهيم الوطنية والحرية والدستور ظهر المثقف العربي.
في ضوء البحث المقارن، ما هي نقاط الاختلاف والتلاقي بين المثقف في أوروبا (فرنسا وألمانيا كمثالين) ودوره في البلدان العربية أواخر القرن التاسع عشر حتى يومنا الحاضر؟
ثمة أدب وإنشاء شائعان في ثقافتتنا يتحدثان عن اضطهاد السلطة للمثقف، وهو جزء من أدب انساني يتخذ من أمثلة محددة علامات على ذلك، مثل الحكم على سقراط بالموت. وفي تراثنا أخبار من هذا الطراز مثل الحلاج الذي اضُطهد وصُلب ومثل السهرودي الذي قُتل، دون أن نبرر أي اضطهاد أو حكم بالموت على أي شخص لاختلاف في العقيدة أو الرأي.
وهذا الميل للاعتقاد بأن السلطة والمثقف نقيضان هو ميل لا يؤيد منطق تطور المجتمعات والدول، ذلك أن كل دولة وسلطة تنهض على أفكار صاغها علماء دين وفلاسفة ومفكرين.. وأظن أن اشكالية المثقف والسلطة، لا تظهر في أوروبا إلا مع العصر الحديث، أي انها مرتبطة بحداثة الأفكار والعلوم. نعرف قصة جوردانو برونو الذي حكمت عليه الكنيسة الكاثوليكية بالموت عام (1600) ولكن بعد محاكمة استمرت سبع سنوات. والأمر نفسه ينطبق على غاليلو الذي تعرض هو نفسه لامتحان طويل، كل ذلك يُظهر الهوة الواسعة بين العلم الحديث والمعتقدات الكنسية. ولدينا أمثلة من نفس الفترة أبرزها مثال الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت، الذي آثر أن يترك فرنسا ليبتعد أيضًا عن ضغوط الكنيسة.
نلاحظ أيضًا أن موقف التنويريين والمفكرين الفرنسيين كان دائمًا في تناقض مع السلطة الملكية، من ڤـولتير إلى روسو مرورًا بالانسكلوبيدين(الموسوعيين). والتقليد الثقافي الفرنسي، ومنذ القرن الثامن عشر كان مناهضًا للسلطة، من اميل زولا ومقالته الشهيرة”اني أتهم 1898 ” قبل وفاته المشبوهة عام 1902، والتي اعتبرت بمثابة اعلان عن ولادة المثقف وصولاً إلى جان بول سارتر(توفي عام 1980) وموقفه المناهض للسلطة وخصوصًا إبان حرب الجزائر.
لكن التقليد الثقافي الألماني يختلف عن التقليد الفرنسي. كانت ألمانيا مجزأة، ولعب الفلاسفة من هيردر(1803) إلى فيشته(1814) دورًا في التأكيد على أهمية اللغة في الوحدة القومية، وصولاً إلى هيغل(1831) ونظريته عن الدولة. من هنا الأهمية القصوى للفلاسفة في الوحدة الألمانية.
هناك فارق إذًا بين المثقف الفرنسي والذي عادة ما كان مفكرًا حرًا، روائيًا او صحافيًا أو فيلسوفًا، وبين المثقف الألماني الذي عادة ما كان أستاذًا جامعيًا وجزءًا من المؤسسة الحكومية.
أردت أن أبدأ بهذه المقدمة التاريخية لأقول بأن ظروف تبلور المثقف في أوروبا ليست واحدة، فهناك تجارب مختلفة وتقاليد مختلفة، يُضاف إلى ذلك، أنه ولوقت طويل انقسم المثقفون في أوروبا بين اتجاهات اليمين واليسار. ووقع الكثير من المثقفين تحت تأثير الفكر الماركسي وخصوصًا بين عشرينات وستينات القرن العشرين. ولو أردنا اليوم أن نحدد وضعية المثقف الأوروبي- وهو أمر مستحيل- أقول أنه نتاج تراكم طويل منذ بروز العقلانية في القرن السابع عشر وحتى يومنا هذا، وهونتاج تراكم الخبرات الفكرية، ففي كل مثقف أوروبي أثر من ديكارت وكانط أو هيغل وماركس…
الوضع لدينا مختلف بطبيعة الحال، هناك مثقفون عرب يتابعون ما يُنتج في العالم الغربي، فيتأثرون بهذا المفكر أو ذاك. إلا أن ذلك لا يأتي في سياق تراكمي كما يحدث لدى المثقف الغربي. وإذا أردنا أن نستعين بالتعاقب الزمني، أقول بأن المثقف العربي عند ظهوره، كان قد تأثر بالدرجة الأولى بالفكر الفرنسي العائد لعصر الأنوار والثورة الفرنسية، وفي نهاية القرن التاسع عشر كان في موقع المعارضة وخصوصًا أولئك الذين طالبوا بتبني الدستور وتقييد سلطة الحاكم، وقد اضطر بعضهم إلى الهجرة إلى مصر أو أوروبا هربًا من الملاحقة. ولكن خلال فترة قصيرة من الزمن(1880-1930)، كان على النخب المثقفة أن تجد اجابات حول مسائل الدستور- نزع الاستعمار- بناء الدولة الوطنية، وبهذا المعنى انتقل المثقف من موقع المعارضة، إلى موقع المنخرط ببناء الدولة الوطنية الحديثة، وفي مرحلة لاحقة(1930-1960) سيطرت الاتجاهات الايديولوجية (شيوعية-قومية..) وخصوصًا في المشرق العربي، ودخل المثقفون في صراعات سياسية وحزبية الخ.. لكن ومنذ الستينات فإن حال المثقفين والثقافة في تراجع بسبب هيمنة الأنظمة الآحادية.
أوّد العودة قليلاً إلى ما كنتُ ألمحتُ إليه سابقًا. فالتحديث بدأ بسبب الحاجة إلى الخبرة العسكرية الأوروبية، وإنشاء المعاهد كان لخدمة العسكرية، الأمر الذي أدّى إلى بروز شخصية الاداري المتنور المتعدد الاختصاصات، أي أن تحديث العسكرية أدّى إلى تحديث في المعارف واكتساب الثقافة الأوروبية. مما يعني أن الأفكار الحديثة برزت بسبب هذا التحديث، ويعني أيضًا أن القرن التاسع عشر قد أبرز شخصيتين تحديثيتين هما: العسكري والمثقف التنويري. وقد عملا لفترة من الزمن في تناغم وفي خدمة مشروع نهضوي واحد. وكلنا نعرف أن دور الجيش والاهتمام بتسليحه والمؤسسات التابعة له قد تضاءل بعد غياب محمد علي باشا. وفي عهد الخديوي اسماعيل عاد الاهتمام الجزئي بالجيش، ولكن الخديوي اهتم أكثر بالنواحي العمرانية والثقافية، وفي فترة حكمه أُنشئت المدارس والمعاهد ومن بينها كلية دار العلوم، ومعهد الادارة الذي خرّج الحقوقيين. وظهرت في عهده الصحف والشخصيات المؤثرة في الرأي العام. وبعد نهاية عهد الخديوي اسماعيل واحتلال الانكليز لمصر 1882 (إثر ثورة أحمد عرابي)، عمد الانكليز إلى تقليص الجيش إلى درجة غاب عن الحضور والتأثيرفي السياسة والحياة العامة، مع تعاظم دور رجال الفكر وأصحاب الرأي، وظهور التيارات السياسية وبروز الوطنية المصرية وصولاً إلى ثورة 1919 التي قادها رجال الحقوق والفكر والثقافة، كان أثر انخفاض الجيش في الدولة والحياة العامة قد أدّى إلى بروز دور المثقف وصاحب الرأي. ومن الملاحظ بخصوص مصر، أن الجيش لم يخض أي معركة أو حرب خلال خمسين سة (1898-1948)، وهي المدة التي برزت فيها الأسماء الكبرى في الثقافة المصرية وازدهرت خلالها الصحف والمجلات والمسرح والفنون الخ..
ولكن في عام 1936، أتيح المجال لأبناء الطبقة الوسطى الدخول إلى المدرسة الحربية. وكان أغلب الضباط الأحرار الذين قادوا الانقلاب العسكري عام 1952، هم من دفعتي 1936 و1937 في المدرسة الحربية. لكن هؤلاء الضباط كانوا يبحثون عن مرشدين فكريين وسياسيين، وكانوا يبحثون عن ذلك في أحزاب “مصر الفتاة ” و”الأخوان المسلمين” و”الشيوعيين”. وكانوا متأثرين برواد الثقافة في تلك الآونة(الأربعينات) وكان عبد الناصر قد تأثر بكتاب توفيق الحكيم (عودة الوعي). واحتفظ عبد الناصر باحترامه وتقديره لكبار الثقافة المصرية طوال فترة حكمه. إلا أن الضباط الأحرار وبعد فترة وجيزة من تحكمهم بالسلطة شعروا بأنهم ما عادوا بحاجة إلى مرشدين سياسيين وفكريين، فعمدوا إلى حل الأحزاب وتأميم الصحافة، وإلى الزج بالمثقفين والحزبيين بالسجون.
إن الفكرة التي نستنتجها هي أن التحديث قد احتاج إلى نوعين من الخبرات، الخبرة العسكرية والخبرة المعرفية، وكانت الخبرات متداخلة قبل أن تتمايز وتستقل. لقد بقيت المؤسسة العسكرية رمزًا للتحديث والوطنية والنظام وحماية الاستقلال بما تملكه من سلاح، بالمقابل فإن رجال المعرفة والفكر والعلم، الذين نطلق عليهم تسمية المثقفين كانوا بدون مؤسسة موازية، ولا يحكمهم الانضباط بل على العكس من ذلك فإن التنوع والتعدد واختلاف الآراء هو ميزة الثقافة. لهذا فإن طرفي معادلة التحديث في القرن التاسع عشر، أي العسكري والمثقف، أصبحا على طرفي نقيض، وحين انقض العسكر على السلطة وجدوا أن سلطتهم لا تكمل إلا بالقضاء على نفوذ الثقافة.
– أين هي مكانة المثقف العربي الحقيقية والمطلوبة بين دور مرغوب من المجتمع، ووظيفة وتحتكرها السلطة السياسية عادة. وهل لنا هنا من تمييز دقيق بين الدور والوظيفة؟
لنبدأ أولاً بالتعريف الانثروبولوجي للوظيفة والدور، الوظيفة هي ما يشغله المرء في الجسم الاجتماعي تبعًا لخبرته أو لأسباب أخرى عديدة(الوراثة مثلاً): رجل السلطة- رجل الدين- التاجر- الحرفي – المزارع. وفي أزماننا المعاصرة تكاثرت الوظائف: رجل القانون- المهندس- الصحافي- الأديب- الأستاذ الجامعي.. الخ.
أما الدور فهو أمر آخر، إذ يتطلب الانخراط في القضايا العامة للمجتمع ويبين قضاياه ويعبر عنها، من هنا رأينا أن رجال القانون (المحامون) كانوا قادة الرأي وقادة الحركات الوطنية المناهضة للاستعمار، وفي مراحل لاحقة أصبح رجال الأدب والصحافة هم المعبرون عن القضايا العامة والمضطلعون بالأدوار الاجتماعية والوطنية.
الأمر الذي نلاحظه أن الرأي العام، وعامة الناس عادة ما يطلبون من أولئك الأشخاص الذين يشغلون الوظائف المتعلقة بالفكر والأدب أن يعبروا عن قضايا مجتمعهم. ولكن حين نطلب دورًا من المثقف، فينبغي أن يكون حرًا في آداء وظيفته. لقد حدث خلال خمسين سنة أو أكثر، أن السلطات الحاكمة قد قبضت على الوظائف، وحولت أساتذة الجامعات والصحافيين والكتّاب إلى إجراء بحيث تتحكم بالوظائف وتلغي أدوار أصحابها.
والخلاصة التي يمكن أن أصل إليها، لا يمكن للمثقف أن يقوم أو يضطلع بدور عام سياسي أو وطني أو اجتماعي، ما لم يكن قادرًا على القيام بأعباء وظيفته، دون خلط بين الوظيفة والدور.
ما نشهده اليوم هو تدهور للوظائف الثقافية: التعليم الجامعي- الصحافة- السينما.. ولعل دور المثقف هو في إعادة الاعتبار للوظيفة الثقافية قبل أي شيء آخر.
خالد زيـادة*
بيروت 2018.06.05
بطاقة تعريف بخالد زيادة
أستاذ جامعي، حاصل على شهادة الدكتوراه من جامعة السوربون الثالثة- باريس عام 1980، باحث في التاريخ الثقافي والاجتماعي.
شغل الدكتور خالد زيادة منصب سفير لبنان لدى جمهورية مصر العربية، والمندوب الدائم في جامعة الدول العربية بين عامي (2007-2016)، وهو حالياً مدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات فرع بيروت.
له العديد من المؤلفات، منها: “المسلمون والحداثة الأوروبية”، “سجلات المحكمة الشرعية (المنهج والمصطلح)”، “الكاتب والسلطان من الفقيه إلى المثقف”، “الخسيس والنفيس، الرقابة والفساد في المدينة الإسلامية”، و”العلماء والفرنسيس- قراءة في تاريخ الجبرتي”.
كما صدرت له ثلاثية بعنوان: “مدينة على المتوسط”، إضافة إلى رواية تاريخية بعنوان “حكاية فيصل”.
نشر العديد من الكتب ترجمةً وتحقيقاً، مثل “سفارة نامة فرانسة (جنة النساء والكافرين)”، و”عبرة وذكرى أو الدولة العثمانية قبل الدستور وبعده” لسليمان البستاني، ورسالة “الكلم الثمان” للشيخ حسين المرصفي.
له عشرات الدراسات والمقالات في مجلات محكمة، منها مقالة وافية عن التاريخ والتصوّف، كما شارك في العديد من الندوات والمؤتمرات وورش العمل العلمية.
اقرأ أيضاً: