د. رينيه فيلدانغل
بعد الاعتداءات التي حدثت على النساء ليلة رأس السنة، ومع اقتراب حدثٍ إحتفاليٍ ضخم آخر في شهر شباط فبراير، يتخوّف بعض الناس من خطر حدوث شيء سيء ثانية.
بدايةً، يتفق الجميع أن ما حدث في الحادي والثلاثين من ديسمبر في كولونيا كان مروعًا، وينبغي تجنبه مستقبلاً بكافة الوسائل، لكن هذا لم يكن جديدًا كليًا ولم يشكل سابقة في ألمانيا. ووفقًا لكل ما نعرفه فقد كان اعتداءً إجراميًا منظمًا ضد النساء، إذ تم التحرش بالضحايا جنسيًا كما حدثت جرائم اغتصاب.
يصنف التحرش كسلوك قبيح وإجرامي يستدعي في ألمانيا كما في كل العالم عقوبةً قضائية. لسوء الحظ لم يكن حضور الشرطة كافيًا ليلة رأس السنة في كولونيا وخرج الوضع عن السيطرة بشكل كامل. لكن بعض السياسيين الألمان والمعلقين في وسائل الإعلام، أساؤوا استخدام هذه الحوادث الجرمية ليتهموا اللاجئين بشكلٍ عام، باعتبار أن أوصاف معظم المشتبه بهم في جرائم تلك الليلة في كولونيا ترجح أنهم من شمال إفريقيا. وبناءً على ذلك فقد حاول ممثلو الجناح اليميني في ألمانيا والمنتسبون إليه الذين يعارضون وجود المهاجرين واللاجئين في ألمانيا، نشرَ التعميمات حول “الشباب العربي” والتعبئة ضد اللاجئين في ألمانيا، واستخدمت أفعالُ قلةٍ من المجرمين، للتحريض ضد مليون إنسان آخر جاؤوا إلى ألمانيا هربًا من الحرب وأملاً بحياةٍ آمنة تحمل لهم فرصًا جديدة. وللأسف فإن كراهية الأجانب لم يتم التعبير عنها من خلال الكلمات فقط، بل أيضًا من خلال أعمال جماعات متطرفة عنيفة في ألمانيا خرجت إلى الشوارع لتهديد وضرب أولئك الذين يبدون “كأجانب”. إنّ هذا السلوك العنصري يجب مجابهته من قبل الشرطة الألمانية وإدانته بشدة من قبل النظام القضائي.
أما الآن وباقتراب الكرنفال في بداية شهر شباط فبراير، بدأ بعض الناس يشعرون بالقلق، خشية وقوع حوادث عنف، سواء ضد المرأة من أي جهة كانت، أو ضد اللاجئين أو المهاجرين، إضافةً لترقب أي مشاكل متعلقة بالنقاشات الحالية المحتدمة في ألمانيا. ونظراً لأهمية الحدث تستعد كولونيا لتجنب تلك المخاطر وقد وعدت العمدة هنرييت ريكر بحالة أمنية أفضل، ويُتوقع تواجد الكثير من رجال الشرطة.
يتم الاحتفال بالكرنفال في عدة مناطق من ألمانيا -ومن العالم كالبرازيل- لكنه يحمل في كولونيا أهمية خاصة، وتعود أصوله إلى شقين: الأول يعود تاريخه إلى ما قبل الميلاد أي قبل أكثر من ألفي عام، حيث كان مهرجانًا يحتفل بنهاية الشتاء وقدوم الربيع، وكان الناس يعتقدون أنه يطرد “أشباح” الشتاء، ولهذا نجد في بعض مناطق الكرنفال -كجنوب ألمانيا مثلاً- أزياء تتعلق بالأشباح والساحرات. أما الشق الثاني فهو ديني، حيث كان الكرنفال يعتبر آخر كرنفالات الاحتفال بالطعام والشراب الصاخبة، قبل أن تبدأ فترة الصيام التي تمتد لستة أسابيع وتستمر حتى عيد الفصح. وفي الكاثوليكية التقليدية كانت فترة الصيام هذه صارمة جدًا مقارنة مع شهر رمضان حيث يتناول الناس الطعام خلال هذه الفترة بشكل متواضع جدًا، فلا طعام خلال النهار ولا حلوى ولا لحوم ولا بيض ولا مشروبات كحولية. وتأتي كلمة كرنفال من الكلمة اللاتينية “كارني” والتي تعني اللحم. ولهذا فإنه من المعروف أن أيام المهرجان التي تبدأ يوم الخميس وتنتهي يوم الثلاثاء ستكون احتفالاتٍ في غاية الصخب قبل أن يبدأ الصيام، وهذا يشبه نوعًا ما الطريقة التي يحتفل بها المسلمون بوليمة ضخمة بعد انتهاء رمضان، ثم بعد ذلك في أربعاء الرماد اعتاد الناس الذهاب إلى الكنيسة وبدء الصيام.
اليوم أصبحت المرجعية الدينية لهذا الاحتفال أقل أهمية حيث أصبحت بالنسبة للكثيرين طي النسيان، لكن الشيء الذي ما يزال موجودًا هو المهرجان التقليدي، والذي أصبح نقطة جذب سياحية رئيسية في المدينة. صحيح أن المهرجان قد يبدو اليوم غريبًا بالنسبة للكثيرين -بما في ذلك العديد من الألمان- لأن الجميع تقريبًا في المدينة يرتدون أزياءً تنكرية، ومعظم الناس يشربون في الشوارع، وتعزف موسيقى كولونيا التقليدية الخاصة بالمهرجان في كل مكان. لمدة ستة أيام تدخل المدينة في جنونٍ تام والكثيرون يحبون مظاهره، حيث يقومون بأنفسهم بخياطة أزيائهم الخاصة التي يحضرونها بعناية طوال العام، وبعضهم ينتسبون كأعضاء في “نادي الكرنفال” حيث يقومون بتحضير العربات للموكب الكبير. يقام الموكب الأكبر يوم الإثنين والذي يطلق عليه في كولونيا “الإثنين الوردي” الذي يعتبر بالنسبة لمعظم الناس أهم أيام السنة على الأرجح حيث يعبر الموكب بمئات السيارات. بعض الناس لا يحبون ذلك أبدًا ويغادرون المدينة خلال هذه الأيام للحصول على عطلة.
أنصح الجميع بمشاهدة موكب الإثنين الوردي حيث أنه حدث جميلٌ ونابض بالفرح والألوان، هو يومٌ مميز أيضًا بالنسبة للأطفال الذين يستمتعون بارتداء الأزياء أو تلوين وجوههم وما إلى ذلك، وخلال الموكب الذي يكون عادةً مزدحمًا جدًا يرمي الناس الحلوى والشوكولا من السيارات. هذا هو المهرجان الرئيسي في كولونيا وقد انتشر في كثيرٍ من المدن الأخرى. وبالطبع هناك بعض الأشخاص الذين لا يشربون أو ينزعجون من الشرب علنًا قد يشعرون بالإساءة من ذلك ويفضلون البقاء في المنزل.
ومع ذلك فلا يمكن لي إلا أن أقوم بتشجيعكم على الذهاب ورؤية موكب كولونيا المركزي يوم الإثنين أو المواكب الصغيرة في أحياء مختلفة من المدينة والعديد من المدن الصغيرة في ألمانيا. إذا تصرف الجميع باحترامٍ ومحبة وبعقل منفتح نأمل أن يكون كرنفال 2016 آمنًا تمامًا ونابضًا بالحيوية التي ستستمتعون بها.
*مدير مكتب مؤسسة هاينرش بول في رام الله – فلسطين سابقًا (2012-2015)، درس التاريخ في كولونيا، واللغة العربية في دمشق.
اقرأ أيضاً: