حوار خولة دنيا*
بدأت أبواب سلسلة لقاءات مع مهاجرين في أوروبا من جنسياتٍ عربية مختلفة، بعضهم عاشوا هنا منذ عشرات السنين، وبعضهم وصل مع موجة اللجوء الجديدة. كم تختلف القصص وكم تتشابه، وهل يتشاركون نفس الهواجس، أم لديهم نفس الاهتمامات؟
كاميران حوج، مواطن ألماني من أصل سوري من مدينة القامشلي، مدرّس ومترجم، التقته أبواب وكان الحوار التالي:
كاميران في ألمانيا منذ 1996، فكيف جئت؟ وما دوافعك وأسباب اللجوء؟
نتيجة لسوء الأوضاع في سوريا وقمع الحريات، توهمت في طفولتي أن ما ترويه الكتب عن الحرية والديمقراطية، التي تشبّعتُ بها نظرياً وأيديولوجياً حقيقة، وتخيلت أن الدفاع عن هذا الحق، وممارسته شجاعة. هكذا كنت أسمع حافظ الأسد أيضاً يخطب. في السابعة عشر من عمري كنت في دمشق، حين أخذت عبرةً، لن أنساها طالما أنا في دولة الأسد: “العسكري وحده يحق له ممارسة الحرية، حرية الضرب، حرية الإهانة، حرية أن يمنع عنك الحرية”
حين سنحت لي فرصة الخلاص، جئت إلى أوروبا سنة 1996، قاصداً فرنسا في الأصل، لأني من ناحية، أجيد الفرنسية، ولأن فرنسا موئل الحرية والمساواة والعدالة، كما تخيلت. لكني دخلت ألمانيا بطريقة غير شرعية، ولم أتمكن من إتمام الطريق إلى باريس.
أمضيت إحدى وعشرين سنة في ألمانيا، 16 سنة، حتى الحصول على الجنسية، كيف كانت تجربتك قبل الحصول على الجنسية وبعدها؟
آنذاك كانت أوضاع اللاجئين السوريين مختلفة كثيراً عما هي عليه اليوم. نسبة الاعتراف باللاجئ السوري لا تتجاوز 3% وهي ضربة حظ. . في سنة 2004، وقعت الحكومتان الألمانية والسورية على اتفاق، أعلنت فيه سوريا استعدادها لاستقبال جميع الذين رفضت طلبات لجوئهم، حتى لو لم تثبت جنسيتهم السورية. شملني الاتفاق، وأُدخلتُ سجن الترحيل، لكن بمساعدة أصدقاء ومحامين، أُطلقَ سراحي، وتقدمت بطلب لجوء جديد، تم بموجبه منحي حق اللاجئ سنة 2007.
وبما أن الحياة لا تتوقف، بدأت الدراسة الجامعية هنا من جديد، والعمل منذ 2005 في التدريس والترجمة. هذان العاملان خففا من شروط الحصول على الجنسية الألمانية خلال ستة سنوات.
الحقيقة أن نيل الجنسية لم يغير الكثير سوى حرية التنقل. من الناحية القانونية تمتعت منذ وصولي إلى ألمانيا بكافة حقوق المواطن الألماني، عدا الانتخاب، الأمر الذي منحني الفرصة، لأمارس ما خرجت من سوريا لأجله من حريات.
اليوم أعداد تقارب نصف مليون سوري أصبحوا لاجئين في ألمانيا. الكثير منهم برسم الانتظار. ألمانيا بلد اللجوء، ومقصد الطامحين لحياة افضل. كيف كان تاريخها مع اللجوء حسب معرفتك ومعايشتك اليومية وعملك؟
ألمانيا كانت ومازالت تستقبل العدد الأكبر من اللاجئين من كافة أنحاء العالم، ورغم هذا، كانت هناك نقاط شديدة السواد في التاريخ الألماني، تجاه اللاجئين والأجانب عموماً، بعد الحرب العالمية الثانية. مع التمييز دائماً، بين المستويين الرسمي القانوني، والمستوى المجتمعي. دائماً كان هناك خوف من الغريب، ولا يتوقف هذا فقط على الدين، أو لون البشرة، وما يعانيه اللاجئ الأفريقي المسيحي، قد يكون أسوأ مما يعانيه اللاجئ السوري المسلم. عام 2005 قُتلَ شابٌ أفريقي في سجن، وقد تبين قبل أيام أن الشرطة قتلته في الزنزانة حرقاً، وادعت أنه أحرق نفسه انتحاراً.
قضية العداء للإسلام تفشت اليوم أكثر، لأن الإسلام صار الصورة المثالية للعدو، وهذا ما استغلته الحركات اليمينية لتنتشر.
طبعا من الناحية الأخرى نجد الترحاب الشديد باللاجئين، وآلاف المتطوعين لخدمتهم، والمبادرة بالدفاع عنهم “والنضال” لأجلهم. مع مجيء أعداد أكبر من السوريين، لمسنا جميعاً، حجم الاستعداد الجمعي لاستقبال اللاجئين، حتى في العائلات الألمانية. لكن المزاج العام ساء لاحقاً.
الاندماج كلمة نسمعها كل يوم. ماذا يعني بها الألمان؟ وماذا يتوقعون من اللاجئ أن يفعل، كي يكون مندمجاً برأيك؟
لا إجابة لدي، عندما قال أحد الرؤساء الألمان، كريستيان فولف، أن الإسلام ينتمي إلى المجتمع الألماني، قامت قيامته واضطرته الصحافة إلى الاستقالة من منصبه، نبشوا ماضيه للعثور على أي خطأ قد يكون ارتكبه. وبعد سنوات كثيرة، ومحاكم متعددة، بُرّئت ذمة الرجل من التهم القانونية الموجهة إليه، لكنه عملياً انتهي.
ما هو الاندماج؟ أزيحت فكرة التعدد الثقافي، لصالح فكرة الثقافة الرائدة، التي يجب على الجميع الالتزام بها، لكن ما هي هذه الثقافة الرائدة؟ هناك نمذجة ما لأشياء ما. الجميع يصر على أن اللغة هي مفتاح الاندماج. لا شك في هذا، لكن مجرد تعلم اللغة في عدة دورات مكثفة، ليس السبيل الوحيد لدخول هذا المجتمع. اللغة أحد المفاتيح، والمفاتيح الأخرى قد تكون العمل، للتعرف على زملاء والتبادل “الثقافي” اليومي، والانفتاح على المجتمع المضيف. أظن أنه يمكن التوفيق بين مستويات مختلفة، لكي لا يشعر الغريب بأنه ضعيف، فينعزل عن المجتمع المضيف، وينغلق على أبناء مجتمعه الأول، ما يولد مجتمعات غريبة عن بعضها.
الاندماج هل هو ممكن، ويحمل نفس المعنى بالنسبة للاجئين؟ هل هو جواز دخول وقبول للمجتمع الجديد؟ ماذا يفعل اللاجئ كي يكون مقبولاً في المجتمع الألماني؟
أعتقد أن اللاجئ إما أنه يهمل الأمر، أو أنه يبقى مشكوكاً فيه حتى يثبت العكس، وربما العكس المتطرف. طبعاً هناك تدرجات أكثر سلاسة وتقبلاً بين النمطين. فقد يطالب المجتمع المضيف الأجنبيَ بأمورٍ لا يتمكن منها أبناؤه. مثلاً حين أضيفت دورة الاندماج، على دورة اللغة، اختبرت وسائل الإعلام الألمانية معلومات المواطن الأصيل، فلم يتمكن الكثيرون من الإجابة على الأسئلة، التي يفترض بالأجنبي أن يجيب عليها. لكي يثبت الأجنبي اندماجه، عليه أحياناً أن يتفوق للأسف على أبناء البلد. أظن أنه يمكن التوفيق بين مستويات مختلفة.
من يبحث في الآخر عن عدو، فلن يتقبله مهما فعل. وهنا نعود إلى مسألة الثقافة الرائدة، هل نطالب اللاجئ القادم من بقعة جغرافية مختلفة، أن يتخلى عن كل مخزونه “الحضاري”، ليتمثل الثقافة الألمانية؟ هناك قيم كثيرة مشتركة بين أبناء الجنس البشري. حين نكتشفها، نكون على سوية واحدة، ونستطيع أن نشترك في البقعة الجغرافية التي نعيش فيها.
الاغتراب هو الوجه الآخر للاندماج؟ كم أثّر على السياسة في ألمانيا، وسط ما نراه يومياً من أخبار يتم تداولها حول اللاجئين اعلامياً، وعلى صفحات الميديا لتأكيد صعوبة اندماج اللاجئين، وبالتالي ضرورة إعادتهم لبلدانهم بأسرع ما يمكن؟
فشلت المحادثات التمهيدية، لتشكيل الحكومة الألمانية الجديدة على عقدة لم الشمل، وتحديد سقف اللاجئين، وضعت الحركات اليمينية المتطرفة اللاجئين دريئة، تمتص بها نقمة المواطن الألماني، لأنه فقد عمله مثلاً، أو يشعر بالإهمال من الدوائر الرسمية، أو يعتقد أن اللاجئ يعيش على حسابه الشخصي. الاغتراب طبيعي بين القادمين الجدد إلى مجتمع مختلف مهما كانت الظروف. البيروقراطية وحدها كافية لتسبب الإحباط. عموماً يحتاج المرء حوالي سنة ونصف كي يحدد موقفه، إما التعامل بسلاسة وواقعية مع المجتمع الجديد، أو الكآبة والقنوط.
اليمين المتطرف يطالب طبعاً بإعادة الناس، حتى السوريين، إلى بلادهم. لكنه أمر مستبعد على المدى المنظور. فلا الوضع الإنساني، ولا القانوني، يسمحان بهذا، لكن الخطر الأكبر، هو في قلق اللاجئ الدائم من فكرة “الترحيل” في أي لحظة، فلا يتمكن من الاستقرار، لما قد يترتب عليها من احتمالات مستقبلية.
أخيراً حدثنا عن عملك الحالي مع اللاجئين. ما هي الخلاصات التي تراها مهمة لايصالها لهم، والاستفادة من خبرتك الشخصية والعملية بما يسهل عليهم أخذ قرارتهم؟
ألتقي يومياً بطالبي اللجوء بحكم العمل. أظن أن مسألة اتخاذ القرار شأن فردي. فالشخص الذي يخطط للبقاء طويلاً، إن لم يكن دائماً في مكان ما، سيكون مضطراً للتعامل مع حقائق جديدة، مختلفة ربما جذرياً، عما اعتاد عليه في مكانه الأصلي. أهم ما يمكنني قوله هنا هو قبول الآخر، هو الانفتاح على أفق أوسع، سواء ارتضيناه لأنفسنا أم لا. والتحلي بالكثير من الصبر.
حوار خولة دنيا* كاتبة سورية لاجئة مقيمة بين ألمانيا وتركيا
اقرأ أيضاً للكاتبة: