ألمى حلواني. كاتبة سورية مقيمة في ألمانيا
تفرض الحياة في أوروبا أو أي مجتمع غربي نمطاً جديداً عليك سواء سعيت لذلك أم أتى مصادفةً، ومع ذلك ودون قرارٍ مسبق قد تتمسك ببعض الأمور والتفاصيل وتنقلها كما هي إلى حياتك الجديدة.
منذ فترة كنا في استضافة عائلةٍ ألمانية تحدثنا خلالها عن مواضيع شيّقة حول التباين بين المجتمعين، أخبرتهم أننا نستمتع صباحاً وبشكل شبه يومي بأغنيات مطربةٍ واحدة! استغرب بعضهم واعتقد آخرون أننا نملك ذكريات جميلة مع تلك الأغاني والأمر شخصي. لكنّ استغرابهم زاد حين أجبتهم بأن الأمر ينطبق على صباحات معظم الدول العربية ورائحة البن في أغلب المنازل تكون برعاية “الفيروزيات”، فسأل أحدهم وهو يعدّل نظارته الدائرية القديمة بدهشة، هل حقاً تسمعون الأغاني ذاتها مكررةً كل صباح؟
نعم بالضبط منذ ما يقارب الستين عاماً، وصوتها يصدح في الراديو والتلفاز ومسجلات القهاوي المتواضعة والكافيهات الفخمة وفنادق النصف نجمة وصولاً للخمس نجوم. في كل مكان صوتها ذاته لا يُمَلّ منه ومن تكراره مع كل فنجان قهوة صباحي.
انتهينا بعد نقاش طويل إلى إقناعهم بأنها ليست مجرد عادة متوارثة بل عشق، وكادت رغبتهم بطرح التساؤلات تختفي إلى أن أردف زوجي قائلاً بروح الدعابة: “لديّ ما يُثير حيرتكم أكثر! لِمساءاتنا نحن العرب مطربة استثنائية شبه وحيدةٍ أيضاً، نلقبها بسيدة الغناء العربي ولصوتها الأخاذ مكانة في جُل السهرات داخل المنزل وخارجه”!
اهتزّ المكان بأصواتهم بين من اعتبرها طُرفة ومن أكمل سَيْل الاستفسارات بذهول وكأنه يشاهد برنامج “غرائب الشعوب”.
في الحقيقة، لا ألومهم فالأمر يسترعي الانتباه والتفكير، كيف حصلت هاتان القامتان على وقت مخصص من يومنا؟ وما أسرار ارتباطهما بالغسق والشفق؟
لعل الأسباب الأهم هي تفرّد الصوت وخصوصيته، واختيار أغنيات مناسبة تماماً للقدرات المميزة بصوتيهما مما جعل ما تقدمانه كنزاً مرصوداً باسميهما، رغم محاولات التقليد، ورغم أن -إعادة التدوير- نجحت مع أغانٍ قديمة أخرى أحياها فنانون بعد سنوات طويلة وحفظها الجيل الجديد بهوية وبصمة المغني المُعيد، إلا أن الغناء “لكوكب الشرق أو سفيرتنا للنجوم” مازال يعدّ مغامرة معقّدة غالباً تكون غير مُرضيّة أو غير مُبهرة وذلك حسب تقييم كثير من النقاد والموسيقيين.
تمكنت السيدتان من خلق نمط فريد بذكاء ممزوج بالحظ، حيث وُفّقت كل منهما بدعائم فنّية محترفة أظهرت إبداعهما بكلمات وألحان منقطعة النظير ما أضفى سمات خاصة جذبتنا وأمتعتنا.
ففي الصباح يحتاج الإنسان إلى لحن لطيف قصير متنوع بين اقتباس عالمي ونَغَم طفوليّ وفلكلور شعبي وإيقاع سياسي أو حتى نبض قصة قصيرة تأخذك لبيت في الجبل وشاطئ وبستان زهور، وتباين فصول السنة ورسائل حب وعتب، الأمر الذي كوّن لدينا شغفاً لبداية نهار لطيف برفقة الصوت الملائكي.
أما “الست سومة”، فاستأثرت بالمساء الممتد إلى ما بعد منتصف الليل الذي يغريه اللحن المديد وتكرار الجمل بألوان وأنغام متعددة مشبعة بالطرب، تدفع خيالك للظن بأنها صدى جميل متلائم مع السهر تماماً، لذا يليق به الرتم البطيء والموسيقى الفخمة المرافِقة للكلمات والشعر سواء كان بالفصحى أو العاميّة، المغرق غالباً بمشاعر تُحرّض سامعها لزفر آهات الحب تارة والحسرة تارة أخرى، دون إهمالها للقضايا السياسية التي قاربت الجوّ ذاته.
عوداً على بدء أقول: حمداً لله على أن أحداً من مضيفينا لم يتطرق في تلك الجلسة لجوانب أخرى في حياتنا كالطعام مثلاً، فهل كان السائل الألماني سَيتفهم أيضاً ثوابت: فطور يوم الجمعة، أطباق اليوم الأول في رمضان والعيدين، مقبلات أعياد الميلاد وعيد رأس السنة، الأطعمة الدائمة للأفراح والأتراح (أبعدها الله عنكم جميعاً)!
بالطبع الثوابت العربية كثيرة في حياتنا ولها جوانب متعددة بين اجتماعي وثقافي وفني، عدا السياسي منها يبقى كائناً متغيّراً متحوّلاً حتى إشعار آخر.