سوزان علي . شاعرة وكاتبة من سوريا
سيرة رجال وأباطرة وديوك وبلاد، إنك واضح كالشمس أيها الرجل وبقدر وضوحك وحزنك أعيش أنا مغمضةً متجاهلةً كل ما تفعله خطواتك في هذا العالم، وفي جسدي. دعني أخبرك عن نفسك وأكتبك بطريقة جميلة، فأنا مثلك اعتدت أن أطوي جناحيّ عندما تهب العاصفة.
أحياناً كثيرة، وأنا أجلس على الشرفة متأملاً سوق الخضار القريب، الباعة، الغرباء، سيارات الأجرة والعمال والصباح الذاهب إلى حتفه، أفكر بهذه الأتمتة المشينة؛ أن تنتظر على محطة الوقود ما يقارب أربعة عشر ساعة من أجل أن تتابع عجلة سيارتك الضياع، هي كيلومترات تريدك أن تسيطر عليها وتسرع قدر طاقتك إلى العمل والسفر والحب والأكل ثم الفناء.
المشهدُ الذي أطل عليه الآن، لا ينقصه ليكتمل سوى ذاكرتي التي أفرغت من جعبتها لحظاتٍ حميمة ورمتها أمام عيني، حتى أنني رأيت نفسي في ذلك الطابور الطويل على باب الفرن وأحدكم يحتك بي من الوراء، أو هناك أركض وراء باص النقل الداخلي متعلقاً بطرف سترة كي أحصل على مقعدٍ ولمسةٍ في الهواء.. تلك اللحظات أخاذةٌ مقارنةً بشوك حياتي الآن، إنني رجل أتابع اختناقي بطريقة هادئة كيلا يشفق علي أحد أو يتعاطى معي المجرمون بصداقةٍ مشبوهة.
في الخدمة العسكرية وكي نحضر ماء الشرب إلى معسكر الخصاء ذاك، كان علينا أن نمشي قرابة خمسة كيلومترات، لنعود بالمياه المثلجة وقد أضحت ساخنة بفضل الطريق الفارغة حتى من سرابها. في وحشة الكيلومترات الخمسة تلك بدأت حكايتي.
كان صديقي ابراهيم يحب القراءة كثيراً ويتحفنا كل مرة بكتاب من سلسلة عالم المعرفة المجلة التي تعرفت إليها بفضله، فبحكم دراستي للحقوق لم أكن مولعاً بالثقافة والكتب ولا بالحقوق أيضاً، أحببت أن أصير راقصاً، لا تستغربوا.. ففي بلادنا لو سألتم أي عابر عن دراسته وميوله ستجدونه يدرس ما يريده المجتمع ويميل إلى ما يحبه سراً، وأنا من هذا الكوكب الفصامي.
أخبرني ابراهيم في طريقنا لجلب الماء عن حياته ودراسته للفلسفة وحبه لمهنة الخياطة، وكان لا يترك يدي أبداً، رغم أنني حاولتُ مرات عدة سحبها، كنت أخفي يديّ في جيبي أو أشبك اصابعي خلف ظهري وأمشي مثل جدي، ولكن ما إن أنسى وتعود يدي إلى الفراغ حتى يلتقطها ابراهيم كعملة ذهبية ويضعها في يده ويشدّ على أصابعي طيلة الطريق.
كان ينتظر يدي وكان صوته يميل إلى الهمس كلما ابتعدنا أكثر عن الثكنة، وتطورت الأحداث بسرعة وصرت أترك يدي لصنارته وأناقشه في قضايا لا تعنيني، لكنني لم أفكر بأكثر من ذلك، أنا المحامي الصغير الذي ينتظره أهله كي يفرحوا بخلاصه من الخدمة الإلزامية، ويتباركوا بقدمي وهي تدوس عتبة المكتب الذي جهزوه لي وفوق بابه لوحةٌ تحمل اسمي الثلاثي بخط أسود عريض.
عند كل مغيب كانت رفقتنا تطول على الطريق الترابية التائهة، وعرفت ما لا أعرفه عن نفسي وكان كافياً أن يأتي ابراهيم ويسمي لي ما اشتهيه وأحبه وأخاف بوحه، فطيلة طفولتي كان للحياة هم واحد فقط هي قتل ما أحبه ورمي جثته في اللاوعي، والآن تبين لي أن اللاوعي أقوى من الواقع بكثير، وأنه إله بارع في إحياء ما نظنه قد مات في العالم وفي أحاسيسنا، إذًا لم يمت شيء، إنها تمثيلية فقط لأتابع حياتي دون شتائم وضرب وإبعاد من أهلي أولاً ثم من جميع الخليقة.
وها هو ابراهيم يعيد كل شيء إلى مكانه وسط الصحراء، وراء ثكنة عسكرية وأمام بيت حجري يبيع الدخان والماء والقهوة لمشردين مثلنا، جنود وعاطلين ومهربين. كانت أول قبلة في حياتي وأول لمسة، ابراهيم علمني ما لم أعرف طعمه، وصرنا نتبادل هذا المخبوء بخوف ومتعة وحب.
لم يشعر بنا أحد، كنا نعرف تماماً ودون كلام سماكة وسرية الأقفال التي يجب أن تكون بحوزتنا. أتقنت التمثيل جيداً، كما أتقتنه بعد انتهاء خدمة العلم واختفاء ابراهيم ابن الشمال من حياتي كلياً. وبدأت دورة جديدة من العذاب والغربة، فماهي إلا شهور قليلة وتزوجت ابنة عمي، كما رغبت أمي وأبي وعمي، وتمت مراسم الزفاف من أفخم صالة إلى بيت المحامي، أو إلى إعدامه.
ماذا تظنون الآن؟ ليست فقط المرأة من تحتاج إلى همسات ومداعبة وحب وطمأنينة في ليلة الدخلة، كنت أحتاج أكثر من ذلك، نافذةً أرمي جسدي منها إلى الشارع، كنت أفكر في تحلل جسدي وتفسخه وسيل دمائي في الطريق، وأنا أرى العروس ابنة عمي تنتظر الفاتح الامبراطور ليرفع منديل وجهها ويغازلها بجملٍ عسلية، ثم يطعمها رجولته بخشونة وكبرياء ويخبرها بين حين وآخر بأنها ليست سوى صنم.
وقفت في الزاوية قرب مائدة أعدتها أمي للمساء العظيم، ولاح لي وجه ابراهيم وطيف الصحراء والمياه المثلجة، تذكرت كيف كان يداعب جسدي بقطع الثلج ويجعلني أتذوق الأماكن السرية التي لا أعرفها في جسدي، فما كان مني لحظتها سوى أن أتصرف عكس ما ينتظره مني الله، انهلت بالضرب على جسد ابنة عمي، ضربتها كما لو كانت هي هذا العالم، بكيت وصرخت، مزقت فستانها الذي كان ينتظر دماءها كوحش بري وغرست أصابعي في شعرها وكدت أنتزعه من جلدة رأسها وأنا أجرها في الغرفة. كانت تصرخ وتستنجد، ولم أشعر بأصابعي ولا بدموعي إلا عندما تلقيت ضربةً من والدي رمت بي أرضاً.
حصل الطلاق، وانتشرت فضيحتي في الدكاكين والبيوت والنزهات، قضيبي لا ينتصب، لذلك أنا رجل عدواني أناني متوحش، يعاني من العجز الجنسي، لقد خرج ما كنت أكبته إلى العلن كفضيحة وكذبة.
في الخمسين من عمري، أجلس كل يوم على شرفتي المطلة على سوق خضار وباعة وغرباء وأتذكر شيئاً ما، وأنتظر عربة الموت الذهبية، فالموت في هذه البلاد جميل جداً، وبوسعه أن يعيد كل لحظاتك القديمة، ما عليك سوى الرحيل يا صديقي، واترك الباقي للموت.
اقرأ/ي أيضاً:
سيرة قضيب (1): حكاية الحبر الأحمر