د. نعمت أتاسي*
تعشق صديقتي السورية واللاجئة الجديدة الروتين وتجد نفسها فيه، تكره التغيير وتجهله تماما. كانت الأشياء عندها تأخذ حيًزا واحدا غير قابل للتغيير وكأنها خلقت لتكون في مكانها، وهي تظن أن الأشياء تفقد هويتها عندما يتغير مكانها ولذلك كانت تشفق عليها من الضياع فتسكنها إلى الأبد في مكانها.
مع أن صديقتي وبحكم ظروفها اضطرت أن تغير كثيرا في حياتها ـ حسنا لنعترف هنا أن كلمة ” كثيرا” هي على الأقل فقط بالنسبة لصديقتي – لأن التغيير شأنه شان كل شيء في الحياة شيء نسبي تماما. ولكن التغيير الأكبر الذي سيغير مجرى حياتها هو اشتراكها بالثورة في بلدها. وكأنها في قرارة نفسها كانت تثور على كل شيء في حياتها، كانت سعيدة لأنها عندما كسرت حاجز الخوف من النظام حطمت جدار خوفها بشكل شخصي.
منذ طفولتها أدمنت صديقتي جمع الأشياء، من الطوابع البريدية والعملات النقدية إلى البطاقات البريدية (كانت ما زالت تحتفظ بها حتى لحظة خروجها الإجباري من منزلها)، وأخيراٌ علب الثقاب بكل أنواعها، حتى أصبحت تمتلك مجوعة رائعة منها تجاوزت ال 1000 علبة وعلبة، ومنعت استخدامها مهما كانت الحاجة ملحًة ( كسرت هذه القاعدة عندما تخلًت عن بعضٍ منها لجيرانها خلال فترة الحصار التي عاشوها في مدينتهم شتاء 2012).
وتطول قائمة الأشياء التي كانت صديقتي تقوم بتجميعها بدءًا من زجاجات العطر الفارغة إلى الأواني الزجاجية إلى المرطبانات، مرورا بالأكياس البلاستيكية والأوراق والأقلام والمسابح.. كانت صديقتي تحيط نفسها بهذه المجموعات وكأنها تشعرها بالأمان وتحميها من التغيير الذي كانت مجرد فكرته ترعبها.
كسرت صديقتي روتين حياتها بمشاركتها في أول مظاهرة نسائية في مدينتها عام 2011، حيث تجمعت النساء من مختلف الأعمار في زوايا الشارع وأمام بعض المحال التجارية بينما قام شباب الحي بحماية منافذه الثلاثة، وعندما سمعت النساء الصافرة المتفق عليها لبدء المظاهرة تجمعن تلقائيا بصفوف هاتفات بصوت قوي: “الشعب يريد إسقاط النظام”، أما صديقتي فقد حاولت أن تهتف مع صديقاتها ولكن عبثا فقد رفضت حنجرتها وأوتارها الصوتية الانصياع لأوامر دماغها، كان الخوف يشلًهما، وبدأت تحاول الهمس، شيئا فشيئا وكأن كرة كبيرة كانت تسد الحبال الصوتية وانبثقت من داخلها وبدأ صوتها يعلو وتهتف: “الشعب يريد إسقاط النظام”. لن تنسى صديقتي هذه اللحظة أبدا وستكون علامة فارقة في حياتها.
تعود صديقتي لحياتها الحالية والتي أدمنت فيها هذه المدينة الفرنسية الصغيرة والطريق الذي يقودها من محطة القطارات إلى “جمعية استقبال اللاجئين”، أدمنت عازف الأكورديون الذي يجلس على رصيف الشارع وهو يعزف ألحاناً فرنسية قديمة تذكرها بفرنسا سابقة في حياة سابقة، أدمنت بائعة الورود التي كانت تقف عندها كل مرة تحييها وتسألها عن ثمن أصيص الورود الصفراء الذي عشقته ـمع أنها حفظت عن ظهر قلب ثمنه لكثرة وقوفها أمامه ـ وهي تشعر بالحيرة وتتساءل : أيحق لها ترف شراء أصيص الورود الصفراء لتقدمه هدية لنفسها؟
عندما استساغت صديقتي مرحلة الخواء الداخلي التي تعيشها بدأت تتخلص من عاداتها وإدمانها، رمت قوارير العطور الفارغة التي كانت قد بدأت تجمعها، وكذلك أكياس الورق والبلاستيك وكل الزجاجات والمرطبانات. ترددت صديقتي عندما همُت بالتخلص من مجموعة علب الثقاب المتواضعة جدا والتي بدأت بتجميعها في حياتها الجديدة كعنوان للاستمرارية. كانت يداها ترجفان خوفا من أن تقطع الخيط الأخير الذي يربطها بحياة سابقة ما زالت حتى تلك اللحظة تعتبرها الأصلية.
قرارها بقطع آخر خيط يربطها بتلك الحياة أخذته عندما وقعت المزهرية الحمراء التي كانت قد جاهدت لإحضارها من منزلها الأصلي في وطنها السابق، كبرهان ودليل دامغ على أنها كانت هناك يوماً ما، لتثبت للزمن ولنفسها أن حياتها السابقة لم تكن وهما ـكما يدًعي هذا الزمنـ لقد مرًت فعلا من هناك.. ولو أرادت ستملأ صفحات عن تلك الحياة الأصلية التي عاشتها.
في اللحظة التي تحطمت فيها المزهرية الحمراء تحللت وذابت كل الخيوط التي كانت تربط صديقتي بحياتها الأولى، ستقرر أنه لم يعد هناك داعٍ للاستمرار في إثبات وبرهنة مرورها في عالم سابق وستقرر التخلي عن كل شيء، ستحمل في نفسها أقل قدر ممكن من الذكريات كي لا ترهق روحها وستوافق ميلان كونديرا على أن هناك خفة للكائن لا تحتمل… هل سبق وشعرت يوما بهذه الخفة؟
أتلفت صديقتي جميع علب الثقاب التي كانت تحتفظ بها ولتبرهن لنفسها عن صدق نواياها انتظرت الحمامة التي كانت تأتي إلى أصيص الورود على طرف نافذتها لتستقر وتصنع عشا لها وعندما رأتها تحطً بين الورود قالت لها : “لا يا صديقتي لا تستقري هنا.. اذهبي وابحثي عن مكان آخر لتبني عشك فيه، هذا المكان ليس للاستقرار، إنه مجرد محطة عابرة”.
د. نعمت أتاسي. كاتبة سورية تحمل دكتوراه في الأدب الفرنسي ومقيمة في باريس