صديق عثمان
كنت جالسًا على الكرسيّ في الحافلة، أحرّك رأسي يمنةً ويسرةً في مكاني، محاولاً لملمة الذكريات التي أصرّت على التسكع على أرصفة مدينة الحب “القامشلي” مقابل ألا تهاجر إلى بلاد اللجوء. بعد وهلة من ذلك توقفت الحافلة وخرجتُ منها لتمضي بعيدةً.
وقفت على طرف الطريق، وسحب الضباب قريبة من سطح الأرض، على يميني ملعبٌ لم يكن موجودًا لحظة اغترابي. على طرفي الشارع تتوزع أشجارٌ ضخمة، طويلة ومنحنية. كان ذلك الانحناء يشبه ظهر الآدمي حينما يصبح أشد قربًا للمبيت في حفرة العزلة والإقامة الجبرية.
أخرجتُ هاتفي المحمول من جيبي بغية التقاط الصور وسرتُ. فجأة رأيت في الطرف المقابل شخصا ذا لحية خفيفة وقميص أصفر وبنطال أسود يقوم من على كرسيه أمام منزله، مبعدًا كأس الشاي عن الأرض قائلا:
“محمد صديق؟! هل أنت المغترب؟! عمك كان ينتظرك طوال اليوم ولكنه ذهب قبل قليل ليصلي”.
طفت ملامح الاستغراب على وجهي. لا أعرفه، لكني أجبت:
نعم أنا محمد صديق، لكن من فضلك هلّا أخذتني إلى منزلهم؟ لم أعد أعرف المدينة والطرق المؤدية إلى بيت عمي. لقد تغيّرت.
استقبل طلبي بترحيب واصطحبني.
قبل الرحيل كانت هذه المدينة مألوفة لي بزُقاقها وحبّها، بحزنها وفرحها، بربيعها وصيفها. أما الآن، لقد أصبحت غريبة كل الغرابة وتغيرت، حتى الربيع لا مكان له، حيث احتلت الأبنية المساحات الخضراء. على ما يبدو أن الرحيل لا يغير ملامحنا فقط، أنما يغير ملامح المدن أيضا.
في الطريق إلى منزل عمي سألني ذاك الشخص عن سبب العودة إلى وطنٍ يراه جحيمًا ملعونًا، وأراه أنا جحيمًا حنونًا؟ ما الذي جاء بي إلى هذه المدينة العجوز؟
إنه ألم الاشتياق الذي يُشفى برؤية الأقرباء والمدينة، جرح الغربة الذي يفتقد “جمعات” عائلية تروّضه. قلتها في حنايا صدري، ثم أخبرته والدمع في عينيّ:
الاشتياق وجمعات العائلة. ربما تكون هذه المرة الأخيرة التي أراهم فيها.. من يعرف؟
أومأ برأسه قليلاً، ثم رحل دون أن يمنحني فرصة أشكره فيها على مصاحبتي.
دخلتُ إلى المنزل بعد توتر شلّ مفاصلي، توتر اللقاء بعمي وزوجته فقط، لأن كل أولاده الذكور عدا واحدا كانوا قد هاجروا الجحيم الملعون.
عند تجاوزي لعتبة الباب الذي لم يكن مغلقا بشكل تام، خطف بصري تجمعٌ لبنات أعمامي الآخرين على يميني وهن يلعبن، وعلى يساري أولاد عمي الذين على ما يبدو قد سبقوني بالعودة. كانت الفرحة تتربع المشهد.
تبادلنا الابتسامات وبدأت أدلف بالرجلين. ظهر عمي من أمامي، سحبت يده اليمنى وأحنيت رأسي مقربًا فمي إلى يده وقبلتها. بادلني القبلات على جبيني. سمعت صوت أمي وأبي فجأةً، تقدمتُ إلى النافذة ورأيتهم هناك. دخل زوجة عمي إلى الغرفة. شعرت بدوار في رأسي. الضباب بدأ يغزو المشهد.. ما الذي يحصل بحق الجحيم.. الجحيم الملعون والحنون.. أولاد عمي المغتربون وأمي وأبي المقيمان في بلاد اللجوء.. الجميع هنا.. الجميع سبقني في العودة!!.
في لحظة ما أفقت، بفعل صفير الرياح الهائجة. تحسرت، تنهدت، لقد كان ذلك حلمًا، جاء إلي الأمر وكأن الزمن يخاطبني: “تلك العودة تبقى حلمًا”. حينها ألقت ملامح اليأس عصا التطواف على وجهي.