مها حسن*
تعلمت الكثير في هذه المنافي، على الأقل تعلمت أربع لغات حتى الآن. هكذا حدثني حسام، بطل روايتي الأخيرة (عمتِ صباحاً أيتها الحرب)، وهو يمزج الدعابة بالحزن.
حسام الذي تركته في نهاية روايتي لمصير مجهول، حين تم رفض لجوئه في السويد، وقد أمضى عامان ينتظر الجواب، بعد أكثر من عام في اليونان، وقبلها عامٌ آخر في تركيا، صار مختصاً بأحوال المنافي واللجوء، وفي جعبته الكثير من القصص والأصدقاء، الذين يتعرف عليهم في بلد، ثم يتركهم ليبدأ حياته في آخر. وصلتُ إلى منفاي، منذ ثلاثة عشر عاماً، اختبرتُه طويلاً، وعايشت تفاصيله، إلا أنني أفكر بتخصيص كتاب عن أمراض المنفى وارتباكات الهوية، فليس للمنفى وجه واحد. يحلو لي الكلام عن الوجه السعيد للمنفى.
رغم كل الصعوبات، فتح المنفى أمامي أبواباً للإطلال على حيوات مختلفة. منحتني أمستردام منزلاً أسطورياً، أمضيت فيه عاماً ساحراً مخصصاً للكتابة. ما كنت سمعت بآن فرانك لولا المنفى، ولا كنتُ أمضيت عامي ذلك في شقتها، لأكتشف حياة بشر آخرين عانوا قبلي، لأتعلّم منهم أنني لست مركز الألم، ولستُ الوحيدة التي فقدت وطناً وأهلاً وعائلة وبيتاً وأصدقاء.
أحببتُ منافيّ بحذر، وفتحت أبواب قلبي، لناس مختلفين، صرتُ منهم بمرور الأيام. حتى قامت موجات اللجوء الهائلة، ففقد السوريون أمل البقاء على قيد الحياة في بلدهم، وطلبوا النجاة في أماكن أخرى من العالم. وهكذا انكسرت جدران منفاي التي أسستها عبر سنوات، لأدخل من جديد، تجربة المنفى، مع منافي أهلي وأصدقائي، كما حال منفى حسام.
أتابع حسام منذ سنوات، منذ بدء الثورة، وأشاركه خبراته في منافيه المتعددة، يتغّير سريعاً من بلد لآخر. ألاحظ تغييراته بدقة. أتعرّف عليها مع أنها تغييرات نفسية لا تظهر في الشكل، حيث لحسام شخصية واضحة، لا يخفي مشاعره ولا يخاف أحكام الآخرين. يتطور وكأنه ينتقل من درجة لأخرى، متخفّفاً من أخطاء التربية الجمعية التي شكّلت شخصيته لا إرادياً. يفكك ذاته ويواجهها، ويربّي نفسه من جديد.
(أحب هذه البلاد، تعلمت فيها أشياء لم يكن بوسعي تعلمها في بلدي هناك)، يحدثني حسام دون قلق الحكم عليه بالانسلاخ أو النفاق أو التنكّر لحياته وبلاده.
لم يتابع حسام تعليمه في حلب التي فرّ منها في الحرب، لكن بإمكانه إجراء محادثة سريعة بالتركية والسويدية واليونانية واليوم، بالألمانية. رغم أنه لم يحصل على إقامته بعد، ولا يحقّ له تعلم الألمانية، لكنه خضع لدروس بسيطة في اللغة في مركز الاستقبال حيث يقيم.
تبهجه قدرته على التواصل مع الآخر بلغته. وأشعر بالدهشة، وأنا أستمع لعشرات الشهادات المتذمرة من أشخاص متعلمين وحاصلين على شهادات عليا، يعبرون عن استيائهم من الحياة الجديدة وصعوباتها، ولغتها المعقّدة.
تعبر إحدى الشابات عن ندمها لمجيئها إلى أوروبا، وتعتبر أن حياتها في تركيا كانت أفضل حالاً منها في ألمانيا. وأندهش مجدداً، كيف تعاني صبية ذات تعليم جيد، وأمامها فرص اكتساب مهارات جديدة في المجتمع الجديد، بينما يشعر حسام الذي لم يتابع تعليمه بعد المرحلة الابتدائية بفرح التعلّم والاكتشاف.
يلحّ عليّ سؤال الاندماج؛ لماذا يندمج البعض بسهولة، بينما يعاني الآخرون؟ أيمكن أن يكون الاندماج أسهل للأشخاص العاديين؟ أولئك الذين بدأوا بالتفكير وطرح الأسئلة، في المجتمع الجديد، وكانوا مُغيبين هناك، كما يصف حسام نفسه؟
هل يعاني أصحاب الشهادات والمعرفة الأعلى، من الشعور بالذنب في حال الاندماج، فيُتهمون بالانسلاخ ونسيان الأصل؟
لماذا يمتلك البعض القدرة على رؤية الجانب الإيجابي من حياة اللجوء؟ رغم التشويهات التي تطال سمعة اللاجئ، لأسباب سياسية، أو بسبب تعميم خطأ ارتكبه شخص واحد على الباقين. ولمَ لا يرى البعض الآخر الجانب المضيء الواضح، ويفضل التذمر والحنين والوجع وتأثيم الذات، رغم إدراكه أن طريق العودة صار صعباً، وربما محالاً!
لماذا استطاعت أمل، الصبية الأميّة تماماً، التي لم يرَ شعرها الضوء تحت الحجاب، أن تتحول إلى فتاة معاصرة، تقصّ شعرها وتلونه بألوان صاخبة، وتكتب بالألمانية، رغم صعوبتها، فهي لا تعرف الأبجدية العربية، بينما تتذمر صبية متعلمة وتبكي مع أغاني حزينة من بلادها التي لم تكن فيها سعيدة ولا حرّة ولم تحظ حتى بفرصة عمل تليق بمؤهلها العالي؟
هل أجرؤ لأقول أن الاندماج يليق بالبسطاء والعاديين؟ لا لأنهم قليلوا المعرفة؟ بل لأنهم أكثر حرية في التعبير، وأقلّ خوفاً من أحكام الآخرين. فلا يخجلون حين يُخطئون، حين يتلعثمون ويتعثرون، بل يقبلون التعلّم، مؤمنين بأنه ينقصهم الكثير. لأنهم لا يملكون أمراض الكمال، فيستمتعون بأي جمال يدخل حياتهم، فاتحين قلوبهم لاستقبال الحياة في أماكنهم الجديدة.
مها حسن ـ كاتبة سورية مقيمة في فرنسا
مواضيع ذات صلة: