كتب النص بالإنكليزية: أمين المغربي
ترجمه من الألمانية: أحمد الرفاعي
نُشر هذا النص بالألمانية في 24 آب/ أغسطس 2018 في جريدة دي تسايت Die Zeit الألمانية وعلى موقعها الالكتروني بعنوان: Die Rückkehr، وسننشر النص كاملاً بالعربية وعلى ثلاثة أجزاء.
رائحة غريبة للحم عفن تذكرني بأنني لست في الهند الصينية! يتراكم حشد كثيف من الذباب على جانب الطريق، يبدو أن لديهم وليمة هناك. هذه رائحة الأموات المنسيين تحت الأنقاض.
الشارع عريض، لكن بالكاد يستطيع المرء المرور. أطلال ما كان يوماً منازلاً، أصبحت اليوم جزءاً من الشارع؛ في بعض الأماكن تستولي الأنقاض على الشوارع بالكامل. البيوت إمّا منهارة كلياً أو تملأ الحفر واجهاتها. أمّا تلك البيوت المطلّة على الشارع فلا ينقصها إلاّ جدار خارجي أو جداران. كأنني أمشي في شارع تملؤه بيوت الدمى “دول هاوس”، بيوت بلا جدران خارجية. بعض الجدران ما زالت صامدة، والغرافيتي المرسومة عليها يمكن أن تُقرأ بعد. أستطيع تذكر كل الجدران وكل الغرافيتي، لكنني لا أستطيع إيجادها في أي مكان. أبحث عن “إجاك الدور يا دكتور”، ولا أجدها! أبحث عن “لن ننسى تل الزعتر”، فأجد نفسي في بلد آخر، في عقد آخر من الزمن، في مخيم “تل الزعتر” آخر، والفاعل أسد آخر! أبحث عن أبسط شعار للحرية، ولا أجد شيئاً سوى جدران طُبعت عليها إحدى عبارتين: “رجال الأسد مرّوا من هنا” أو “رجال الله مرّوا من هنا”! والعبارتان مكتوبتان من قبل الجنود أنفسهم، في بعض الأحيان على ظلال الشهداء أيضاً. لو كنت جداراً لفضّلت السقوط!
أحاول ألاّ أفكر في حقيقة أني أمشي على البيوت. فكرة أن أحداً يمكنه المشي على منزلي تجعلني أشعر بالضيق. تجّمع الناس هنا في حشود هائلة، يتقدمون متعثرين بين الركام كما في أفلام نهاية العالم. في الأسبوع الفائت هيّج القصف عنان السماء في مشهد مروّع، لم تكن السماء المتوهجة يوماً ما طالعاً جيداً للفلسطينيين. جلب الروس الجحيم إلى الأرض، وأعلنوا يوم قيامة مبكر. بخلاف يوم الحساب الإلهي يحكم الطغيان في يوم الحساب الروسي، فهو مليء باستهداف المشافي والمدنيين. من وُلد ثم قتل خلال الخمس سنين الأخيرة لم يعش إلاّ ظلم الروس والأسديين. من عنده الجرأة أن يقول لطفل إن الليل خلق للنوم، بينما يكون الليل مضاءً أكثر من النهار؟! كيف تستطيع أن توضح لطفل أن الحديقة والمقبرة مكانان مختلفان، بينما الأموات يغزون الحدائق بلا هوادة ليدفنون فيها؟! كيف يمكن أن تقنع الأطفال بأنهم لن يموتوا جوعاً أو عطشاً، وأنت تخشى هذا الشيء بالتحديد؟ كيف تستطيع أن تعد الناس بالجنة والحصار يبترك عن العالم؟
الشرّ رماديّ، كالحطام تماماً!
أصل إحدى الساحات. أعمال التوسعة التي نُفذت في السنوات القليلة الماضية سبقتني. سيارات محترقة، إطارات محترقة، أرصفة محترقة، أشجار محترقة، أحلام محترقة، وذكريات محترقة! أبحث عن الدكان القديمة التي كنت أشتري منها البوظة في أيام غير هذه الأيام. لا أستطيع إيجادها! المشي على الرماد أصعب من المشي على فحم مشتعل. كل البيوت متشابهة، كل الرماد متشابه. أفكر في الذهاب لرؤية مدرستي القديمة، هناك بعد تلك الزاوية، ولكن لماذا؟ كل الرماد متشابه، يروي الرماد نفس القصة دائماً. أجد الطريق عند تلك الزاوية مقطوعاً بأكوام الركام، وأغيّر رأيّ، مقرراً عدم الذهاب لرؤية المدرسة. لم أعد أرغب في رؤية أنصاف جدران، خاصة مع أحد الشعارات، تلك التي تتكلم عن حقي في العودة! لم تعد العودة مثيرة، فقدت كل جاذبيتها.
أكتشف، أو أعتقد ذلك على الأقل، بقايا متجر للكتب. لم يكن له يوماً يافطة. عندما كان يغلق أبوابه، بالتأكيد قبل أن يتلاشى إلى العدم كحاله اليوم، كان من الصعب معرفة أنه متجر للكتب! صاحبه كان قليل الكلام، لذلك اعتدت على وصف متجره بـ”مكتبة الأخرس”. الجميع فعل ذلك في الحقيقة أيضاً. أتذكر كيف كان المتجر فارغاً دائماً. كان الرجل الصامت يبيع الحلويات ليبقي متجره على قيد الحياة. هذا على كلٍ كان سبب احتكاكي به في الكثير من الأحيان. كنت أخاف منه عندما كنت صغيراً. أحاول جاهداً أن أتذكر اسمه، لكن كل محاولاتي باءت بالفش! ما زلت أستطيع تذكر وجهه، أستطيع تذكر قصته أيضاً. بقي هنا، ومات خلال فترة الحصار، مات من الجوع، مثلما مات أكثر من مئة آخرين. وجدوا جثته بعد أسبوعين من موته. لكن في ذلك الوقت قام الجرذان بأكل أصابعه. من الصعب معرفة متى بدأت الجرذان بذلك. هل يا ترى بدأت وليمتها وهو على قيد الحياة بعد أن أنهك الجوع قواه؟ أم انتظرته حتى مات ثم بدأت بأكله! على كل حال، لم يسمعه أحد يصرخ!
خاص أبواب
اقرأ/ي أيضاً: